الثورة – عمار النعمة:
تتفجّر ينابيع الشعر وتحلق في فضاءات بلا حدود، وتمضي بنا إلى عوالم جديدة ثرة، ما قبلها ليس كما هو بعدها.
والنص الشعري الذي لا يفجر ألف سؤال ويدهشك بقدرة الشاعر ليس شعراً، وما أكثر هذا في المشهد الإبداعي العربي ولاسيما في ازدحام الفضاء الأزرق ومن يدّعون الإبداع.
أما المبدع الحقيقي فيعمل بصمتٍ ورويّة ويثري عوالمه بكل ألوانِ الندى لا يستعجل التجربة يتجاوز في كل عملٍ جديد من أعماله ما أنجزه سابقاً.
سلمى جميل حداد الشّاعرة السوريّة التي استطاعت أن تحفر مجرى عميقاً في المشهد الإبداعي العربي شعراً ورواية.. في منجز حداد الشّعري تحتاج أدوات جديدة في القراءة والإبحار ما وراء المعنى، كأنك أمام جدليّة الحياة والأمل، جدليّة النور الذي يشع ليسبر الأعماق.
في جديدها الذي صدر منذ أيام وحمل عنوان “في القطار السريع إلى لا أدري”، تطلق حداد دوائر الحيرة المقرونة بالسؤال، ولكنها الحيرة التي تخترق ضباب الحياة لتحيله نوراً تقول:
ذاهبةٌ إلى لا أدري
كما عيون الفجر إلى الأزرق
واوي عطفٌ على فراغ مثقلٍ بوجودي
والفاء مستأنِفٌ مكرَهٌ لانكساري
وأنا مُستضيقةٌ في الأرض
محمولةٌ على أكفّ السراب
وغيماتُ الوهم ستمطر
لا بد أن تمطر يوماً.. ستمطر
ليعود جِلدي فاخراً كما كان
وزيتوني لامعاً كما كان
ودفترُ القواعد مستثنى بإلا
ومعاجمي تجمع الكلمات
سأعطيها أصابعي وفاكهتي الجميلة
وما استطعتُ من مجاز
سلمى جميل حداد في ديوانها الجديد تعرف أن قطار الزمن لا يتوقف منذ أن كان، لكنه في الكثير من محطّاته قد يكون بارداً سقيماً وذلك لا يعني أنّه علينا أن ننكسر وأن نتوقف، بل يجب أن نمضي إلى الغد في رحلة القطار:
برد..
والثلج إلى جانبيّ القطار صامت لا يتفوه
قُرطان في أذنيّ ما خفّ حملهما وما اصطفيتُ
شعرت أنني الزبّاء شامخة كشمس الأصيلْ
فوق واحات النخيلْ
كان عمري يومها هنيهة ونصفها البخيلْ،
يقتلني في داخلي حضورُ الغياب
وكلُّ ما سوف يُقال وما بمحض الصدفة قيلْ
وقعتُ في قبضة البرد
هي ذي بسمتي تتحجّر كالنُّصُب التذكاري
كي لا أنسى أنني يوماً ضحكتُ
واقترفتُ العطرْ
ورائحةَ العناق وأناقةَ الصبر.
أصبحتُ أكبر سنّاً من أبواب المدينة السبعة
وأكثر نَزَقاً من الضجر والأرقْ،
لماذا لم تخبروني أن الأوطان تموت قهراً
حين يصبح تاريخها المجيد حبراً على ورقْ؟
هي نون النسوة وتاء الفاعل لا تاء التأنيث الساكنة، ذات تتّقد حضوراً ووهجاً في المنجز الشعري، لا بصيغة المفرد الأنانيّ بل المفرد بصيغة الجمع، في بلاد الاغتراب للقطار محطة:
وأنا الغريبة ومفرداتي قليلة
إدنبره! إني منهكة كجملة طويلة
أخاف أن يضيق حبري على قلمي
فيعصفني الجفاف
قبل أن أكتب على انتظاراتي حكايتنا الجميلة
وأخشى..
أخشى أن ألقاكِ يوماً فلا تعرفينني
بقي من ملامحي شامةٌ سوداء
وعينان عسليتان ونصفُ الجديلة
وفي رحلة قطارها هذا الذي أنطلق، يعبر الأيام ليصب في الغد حيث لا تدري هي أين، ومتى يكون ذلك، ولكنها حقيقة تجيد قراءة أعماق الإنسان وجدليّة الزمن الذي يحفر مجراه دون خوف أو وجل.. في عربات هذا القطار رسائل الحياة:
ترددتُ طويلاً قبل أن أخبركَ
أن التجاعيد طوت وجهي
وأن بعضي يغادر بعضي
وأني فقدت متعةَ الانتظارْ
وشهقةَ التمني
وحلمَ الانتصارْ، ترددتُ طويلاً قبل أن أخبركَ
أنني أصبحتُ سواي،
سكنتُ الأماكن البعيدة وسكنني مثواي
أتاني الوطنُ يوماً فما وجدني
“حضرتُ ولم أجدكِ”
ترك لي حفنةَ تراب لا تكفي لقبري
ورحل إلّاي.
ما أنجزته حداد في قطارها هذا يمضي على سكة الزمن بلا توقف، ينثر جمر اللغة ويضيف إلى جماليّات الإبداع الشعري مسارات في القدرة على تطويع اللغة، وزرع فلسفة الأمل على الرغم من كل ما يحيق بهذا العالم من كوارث.