بين أكف الورق ووميض الشاشة.. أين تكمن روح الصحافة؟

الثورة – عبد الحميد غانم:

في زمنٍ تتهاوى فيه الجدران بين الوسائط، وتتدفق الأخبار كشلالٍ لا يتوقف، تقف الصحافة الورقية شامخةً كشجرةٍ ضاربةٍ في الأعماق، تهمس للعالم بأن للحقيقة وجهاً آخر، أكثر عمقاً، وأكثر جدارةً بالثقة.

يقولون: إن الصحيفة الورقية تحمل بين طياتها عطر التاريخ، فهي ليست مجرد صفحات تُطوى وتُرمى، بل هي شاهدٌ على العصر، ومرجعٌ للأجيال القادمة، إنها البصمة التي تتركها الأحداث في رحلة الزمن.

أذكر هنا المشهد المؤثر الذي افتتحت به ندوة “الصحافة 360 درجة: النص والصورة والتأثير”، التي أقامتها الأكاديمية السورية، الطفل “محمود” الذي أُنقِذَ من تحت الأنقاض بعد القصف الهمجي.

تلك اليد التي انتشلته من بين الركام لترتقي لاحقاً شهيدة، وهذا الطفل الذي أصبح رمزاً للصمود والأمل.

هذه اللحظات التاريخية هي التي تخلدها الصحافة الورقية، لتبقى وثيقة أرشيفية تشهد على معاناة شعب وصدق نضاله.

وفي عصر تذوب فيه الأخبار الرقمية كما تذوب قطع السكر في الماء، تبقى الصحيفة الورقية صامدةً كالجبل الأشم، تمنح قارئها هدنة للتفكير، ومساحة للتأمل، بعيداً عن ضجيج التنبيهات المستمرة والعناوين الطائشة.

جسور الثقة

لا يعني حبنا للصحافة الورقية رفضنا للثورة الرقمية، كما يقول مدير عام الوكالة العربية السورية “سانا” زياد محاميد بل إن الجمع بينهما هو السبيل الأمثل، فبينما تنطلق الأخبار الرقمية كالبرق، تأتي الصحيفة الورقية كالمطر المنهمر، تروي ظمأ العقول، وتبني جسور الثقة بين الكاتب والقارئ.

لقد شهدت بنفسي تحولات المهنة على مدى خمسة عقود، من آلات الطباعة القديمة التي كانت تهتز كالمراكب في العاصفة، إلى الأقمار الاصطناعية التي تنقل الخبر في لمح البصر.

وفي كل محطة، كان الدرس نفسه يتكرر: التكنولوجيا تتغير، لكن أخلاق المهنة تبقى.

السرعة مهمة، لكن الدقة أهم.. الانتشار مطلوب، لكن المصداقية أثمن.

وهنا يبرز التحدي الأكبر، كيف نوفق بين سرعة نقل الخبر ودقة تحقيقه؟ الحل يكمن في بناء جيش من المصادر الموثوقة، فالصحفي الحقيقي هو من يبني شبكة علاقات يعتمد عليها، فيستطيع التحقق من المعلومة في لحظات، من دون أن يضحي بالدقة أو العمق.

فن صياغة الرسالة

في زمن الفوضى الإعلامية، تبرز أهمية “هندسة المحتوى” كفن قائم بذاته، فالرسالة الإعلامية المؤثرة هي تلك التي تحمل هدفاً واحداً واضحاً، كما يؤكد مدير المركز الصحفي السوري الباحث والإعلامي أكرم الأحمد تجمع بين قوة الكلمة وبلاغة الصورة وعمق الفيديو.

كم من مرة قرأنا تقارير محكمة الصياغة، غنية بالمعلومات، لكنها فشلت في إيصال رسالتها؟ والسبب بسيط: تعدد الأهداف، تشتت الأفكار، غياب البوصلة، أما التقرير المؤثر فهو كالسهم المصيب، يخترق الوجدان ويصل إلى القلب مباشرة.

لم يعد قياس التأثير بعدد المشاهدات فقط، بل بمدى وصول الرسالة إلى القلب والعقل، ومدى قدرتها على إثارة الحوار والنقاش. فوسائل الإعلام التي تفتقر إلى هذه المقومات تصبح كالجرس الأجوف، يقرع لكنه لا يترك أثراً.

من أشعار المعلقات إلى ذكاء الآلات

تخبرنا صفحات التاريخ أن الإعلام في تطور مستمر، من أشعار المعلقات التي كانت تُعلق في أسواق العرب، إلى الصحف اليومية، وصولاً إلى منصات التواصل الحديثة.

في الماضي، كان الشاعر صحفي عصره، ينقل الأخبار ويحلل الأحداث ويؤثر في الرأي العام عبر قصيدة.

اليوم، تحولت القصيدة إلى تغريدة، والمعلقة إلى منشور، لكن الجوهر بقي نفسه: نقل الحقيقة، التأثير في الناس، صناعة الرأي.

وفي كل عصر، يكمّل بعضه بعضاً، فالكلمة المكتوبة بحسب رئيس تحرير صحيفة الثورة نور الدين الإسماعيل، تمنح العمق والفهم، بينما الصورة والصوت يمنحان السرعة والتأثير. والتحدي الحقيقي هو كيف نجمع بين سرعة الرقمي وعمق الورقي.

خادم أم سيد؟!

في عصر الآلات الذكية، يبرز سؤال مصيري: هل ستأخذ الروبوتات مكان الصحفيين؟ الإجابة واضحة: الآلة خادم أمين، لكنها لن تكون سيداً.

أعمل يومياً مع هذه التقنيات، وأرى كيف يمكنها أن تختصر الوقت في: جمع المعلومات، تحليل البيانات، والترجمة، لكنني أيضاً أرى عجزها عن فهم النكتة المحلية، عن تفسير الإيماءة العفوية، عن قراءة ما بين السطور.

كيف للآلة أن تفهم دمعة أم فقدت فلذة كبدها؟ أو فرحة شاب حقق حلم عمره؟ فالذكاء الاصطناعي يستطيع إنجاز المهام الروتينية، لكنه يبقى عاجزاً عن فهم نبض القلب الإنساني، وعن تحسس مشاعر الناس، وعن رؤية ما وراء السطور.

البوصلة الأخلاقية تبقى في يد الإنسان، وفي خضم المعارك التقنية والصراعات الرقمية، ينسى البعض أن الإعلام في أساسه رسالة إنسانية.. رسالة تحمل هموم الناس، تطالب بحقوقهم، تشاركهم أفراحهم وأتراحهم.

الوجه الإنساني للإعلام

الصحافة المسؤولة التي نؤمن بها ليست سباقاً وراء الإثارة، بل رحلة بحث عن الحقيقة، ليست مطاردة للمشاهدات، بل هي سعي لتقديم محتوى يخدم الناس ويحترم عقولهم.

يتفق العقلاء على أن الإعلام لم يعد مجرد ناقل للأخبار، بل أصبح رقيباً على السلطة، ومنبراً للحقيقة، ومدرسة للوعي.

إن الإعلام الحقيقي هو الذي يجمع بين أصالة الماضي وابتكار المستقبل، بين حكمة الشيوخ وطموح الشباب، بين صوت القلم ووميض الشاشة.

بين دفات الأوراق وومضات الشاشات، تمضي صحافتنا في رحلة البحث عن روحها.

رحلة تحتاج إلى صحفيين يشبهون النحاتين، ينحتون الحقيقة من صخور الواقع، وإلى قراء يشبهون المنقبين، يبحثون عن الجواهر في بحور المعلومات.

إن مستقبل الصحافة ليس في التخلي عن القديم لصالح الجديد، ولا في التمسك بالتقليدي ورفض الحديث.

المستقبل في التوازن، في التكامل، في الجمع بين قوة التقنية ودفء الإنسان، فهل نستحق كصحفيين وقراء أن نكون فرسان هذا التحول؟ الإجابة بين طيات الأيام القادمة، وفي قرارة نفوسنا، وفي إيماننا بأن الإعلام رسالة قبل أن تكون مهنة، وخدمة قبل أن تكون تجارة، وضمير قبل أن تكون مصلحة.

إن التحدي الحقيقي ليس في كيفية استخدام أحدث التقنيات، بل في كيفية الحفاظ على القيم الإنسانية التي جعلت من الصحافة مهنة الأتقياء عندما نجد هذه المعادلة، سنكون قد وجدنا طريقنا إلى المستقبل.

آخر الأخبار
من الدمار إلى الإعمار... القابون يستعيد نبضه بالشراكة والحوار الموارد البشرية المؤهلة … مفتاح التغيير المؤسسي وإعادة البناء بدء مشروع تخطيط طريق حلب – غازي عنتاب كيف فرضت "البالة" نفسها على جيوب الحلبيين؟ سوريا تؤكد أمام اليونسكو التزامها بالتحديث التربوي الأمم المتحدة: بدء مرحلة ميدانية جديدة في سوريا للبحث عن المفقودين بعد سقوط النظام انتهاكات إسرائيلية ضد المدنيين وعمليات توغل هستيرية الشهر المنصرم صدام الحمود: زيارة الشرع لواشنطن تعيد سوريا إلى واجهة الاهتمام الدولي إسماعيل بركات: التعامل مع "قسد" وفق منهج بناء الدولة والعدالة الانتقالية قراءة قانونية في الاستنابة القضائية الفرنسية لملاحقة ضباط النظام البائد في لبنان عاصم أبو حجيلة: زيارة الشرع إلى واشنطن بداية لتغيير استراتيجي بالعلاقات الثنائية وزير إعلام أردني أسبق لـ الثورة: مسار العلاقات السورية-الأميركية يسير بخطوات ثابتة بين القرار والصدى ..المواطن يشد أحزمة التقشف الكهربائي الاستثمارات السعودية في سوريا.. بين فرص التعافي وتحديات العقوبات المركزي قدم أدواته .. لكن هل نجحت بضبط سعر الصرف؟ من الإصلاح الداخلي إلى الاندماج الدولي... مسار مصرفي جديد متدربو مدارس السياقة بانتظار الرخصة انضمام سوريا المرتقب إلى التحالف ضد "داعش".. مكاسب سياسية وأمنية الدفاع المدني يُخمد حريقاً كبيراً في الدانا ويحمي المدنيين من الخطر عودة الدبلوماسيين المنشقين.. مبادرة وطنية تساهم بإعادة بناء الوطن