الثورة – هنادة سمير:
في عالم تتسارع فيه التحولات وتتصاعد فيه التحديات الإدارية، أصبحت المؤسسات الأكثر قدرة على البقاء والنمو هي تلك التي تستثمر في عقول كوادرها قبل أي شيء آخر.
فالموظف لم يعد مجرّد منفذ لسياسات جاهزة، بل عنصر قيادي قادر على إحداث أثر في جودة الأداء والخدمات العامة.
وهكذا، غدت إدارة الموارد البشرية جوهر التغيير المؤسسي ومحركه الأساسي، خصوصاً في الدول التي تمر بمرحلة إعادة بناء هياكلها بعد الحروب والأزمات.
تشير التجارب العالمية إلى أن الاستثمار في رأس المال البشري يسبق دائماً أي إصلاح تنظيمي أو تشريعي؛ ففي كوريا الجنوبية، كانت البداية عبر بناء منظومة حكومية محترفة ترتبط فيها الترقيات بالابتكار وتحقيق النتائج، وفي سنغافورة، تم تحويل التدريب إلى ثقافة مستدامة تُبقي الموظف في حالة تعلم دائم، أما الإمارات العربية المتحدة، فقد جعلت تطوير القيادات الحكومية نهجاً لاستباق التحديات وصناعة التفوق المؤسسي فهذه النماذج وإن اختلف سياقها، تجمعها حقيقة واحدة: الإنسان المؤهل هو أساس كل تغيير ناجح.
بناء الإنسان قبل البنيان
وفي مرحلة إعادة الإعمار في سوريا بدت الحاجة ملحة الى تعزيز المؤسسات الحكومية بكفاءات قادرة على قيادة المرحلة وإحداث التغيير المنشود وفي السياق ذاته انطلقت رؤية وزارة التنمية الإدارية في إعادة صياغة مفهوم الوظيفة العامة، من خلال تحديث الممارسات الإدارية وتطوير الكفاءات البشرية داخل المؤسسات وكذلك تعزيز النزاهة والشفافية وترسيخ ثقافة الأداء والتميز والوزارة اختارت طريقاً مختلفاً عن الحلول الجاهزة، فتوجهت نحو الاستثمار في الكوادر المتوفرة فعلاً داخل القطاع العام عبر برامج تدريب متقدمة تستهدف العاملين في قلب العملية الإدارية.
وضمن هذه الجهود تم تخريج ستين موظفاً من الدبلوم المتقدم في إدارة الموارد البشرية يمثلون ثلاث دفعات من العاملين في مؤسسات الدولة، استمر إعدادهم لمدة عام كامل من التدريب النظري والتطبيقي.
نواة قطاع عام جديد
وزير التنمية الإدارية محمد حسين سكاف قدّم رؤية واضحة لمستقبل الإصلاح الإداري، مؤكداً أن أي تحديث تشريعي أو تنظيمي لن يكتمل دون موظف كفوء يمتلك أدوات ومهارات العصر الحديث مشيراً إلى أن الخريجين يمثلون نواة قطاع عام جديد يقود التغيير ولا ينتظره، ويعد برنامج الدبلوم واحداً من عدة مبادرات تعمل عليها وزارة التنمية الإدارية ضمن خطة وطنية لبناء الكفاءات الحكومية، ومع توسّع هذه البرامج وتزايد أعداد الخريجين، يتوقع أن يتشكل خلال السنوات المقبلة جيل إداري جديد أكثر كفاءة ومهنية وقادر على الابتكار لا تنفيذ التعليمات فقط ويدرك دوره في تعزيز جودة الخدمات العامة ويحمل رؤية إصلاح ذاتي تنطلق من داخل المؤسسة لا من خارجها.
أساس المؤسسات القوية
يؤكد الخبير الإداري الدكتور بشر خوري في حديثه “للثورة” أن تأهيل الكوادر البشرية هو حجر الزاوية في نجاح المؤسسات موضحاً أن الموظف المدرب والمتمكّن من أدوات عمله لا يقتصر دوره على تنفيذ المهام، بل يصبح محركاً أساسياً للابتكار وتحقيق التغيير داخل المؤسسة.
ويضيف خوري: الخبرات العملية والمعرفة الحديثة تجعل الموظف قادراً على التقييم والتخطيط واتخاذ القرارات المبنية على بيانات دقيقة، ما يحوّل المؤسسة من مجرد جهاز روتيني إلى منظومة ديناميكية قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق الأهداف بكفاءة أعلى.
ويشير إلى أن المؤسسات التي تستثمر في بناء قدرات موظفيها تتمتع بعدة مزايا: تعزيز النزاهة والشفافية، تحسين الأداء الفردي والجماعي، وخفض الهدر الإداري، إضافة إلى تعزيز روح المبادرة والقدرة على الابتكار.
ويؤكد الخبير أنه مع بدء مرحلة إعادة البناء في سوريا أصبح تأهيل الكوادر الحكومية أولوية وطنية، معتبراً ما تنفذه وزارة التنمية الإدارية في مجال إدارة الموارد البشرية يمثل خطوة مهمة نحو تمكين الموظفين من قيادة التغيير، وتحويل الخبرات المكتسبة إلى تحسينات عملية داخل المؤسسات، ما يسهم في بناء جهاز إداري حديث قادر على مواجهة متطلبات المرحلة الجديدة بكفاءة وشفافية.
ويختم حديثه بالقول: إن الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الأكثر استدامة فكل موظف مؤهل يمثل قوة حقيقية للمؤسسة، وكل مؤسسة قائمة على كوادر كفؤة تمثل ضمان نجاح الدولة في إعادة البناء وتطوير الخدمات للمواطنين.