الثورة – فؤاد الوادي:
مع اشتداد ألسنة النار في السودان، وتحوّل الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى واحدة من أكثر الحروب وحشية وتعقيداً في القارة الإفريقية، لا يمكن للمراقب السوري إلا أن يلتفت إلى أوجه الشبه المقلقة بين ما يجري هناك وما يلوح في الأفق السوري من احتمالات مشابهة، وإنْ اختلفت التفاصيل الجغرافية والأسماء.
حول أوجه التشابه بين المشهدين لجهة المقدمات والتداعيات المحتملة، التقت صحيفة الثورة، الباحث في القانون الدولي الإنساني والعدالة الانتقالية المحامي إسماعيل بركات، الذي أوضح أن التجربة السودانية ليست سوى مثال صارخ على فشل الدولة في ضبط العلاقة بين الجيش والميليشيا، بين ما يُفترض أن يكون قوةً وطنيةً خاضعةً للقيادة العامة، وبين قوةٍ موازية تشكلت خارج مؤسسات الدولة، ثم تغوّلت تدريجياً حتى أصبحت نداً للجيش نفسه، مضيفاً أن ما بدأ هناك تحت شعار “الاندماج” بين قوات الدعم السريع والمؤسسة العسكرية، انتهى بعد سنوات إلى حرب داخلية مدمّرة، غذّتها التدخلات الخارجية وفتنتها المصالح الاقتصادية المرتبطة ببريق الذهب.
وقال بركات :” اليوم، ونحن نراقب تعقيدات المشهد السوري، يصعب تجاهل التقاطع بين قوات الدعم السريع في السودان وقوات (قسد) في الشمال الشرقي السوري، فكلا التشكيلين نشأا في ظل فراغ أمني وسياسي، وكلاهما استندا إلى دعم خارجي مباشر، وكلاهما يمتلك هوية أيديولوجية وعسكرية مستقلة عن الدولة الأم، والاختلاف الوحيد بين حميدتي ومظلوم عبدي هو اللهجة والبيئة، أما المنهج واحد: قوة عسكرية تستمد شرعيتها من الخارج لا من الداخل، ومن التحالف لا من العقد الوطني.
الدمج قبل التطهير
وأشار الباحث السياسي إلى أنه من الناحية التاريخية، فإن كل التجارب التي قامت على “الاندماج القسري” بين الميليشيا والجيش، من لبنان إلى العراق واليمن والسودان، انتهت إلى تفكك الدولة أو إعادة إنتاج الحرب الأهلية بأشكال جديدة، والدرس السوداني واضح، حيث لا يمكن دمج قوة عسكرية تحمل مشروعاً أيديولوجياً خاصاً دون أن تُفكّك بنيتها الفكرية والتنظيمية، ودون أن تُخضع أفرادها لمحاسبة وعدالة انتقالية حقيقية، فالدمج قبل التطهير هو وصفة جاهزة لانفجار جديد في قلب المؤسسة الوطنية.
وأضاف، أنه في السودان، فقد فشل الاندماج لأن المؤسسة العسكرية لم تكن موحدة في عقيدتها، ولأن الدعم السريع احتفظ بولائه لقيادته الخاصة، ولأن الأطراف الدولية تعاملت مع الميليشيا كقوة أمر واقع، لا كتمرد يجب احتواؤه، أما في سوريا، حيث تتكرر ذات المقدمات، قوات أمر واقع تسيطر على مناطق شاسعة، تمتلك مصادر تمويل مستقلة، وتستند إلى رعاية خارجية تضمن لها البقاء، فيما تُطرح بين الحين والآخر أفكار “دمجها” في المؤسسة العسكرية السورية المستقبلية دون معالجة الجذر البنيوي لأزمتها.من هنا فإن الاندماج دون إصلاح جذري، ودون تحييد الولاءات القومية والأيديولوجية، لن يؤدي، بحسب بركات، إلا إلى تكرار السيناريو السوداني في سياق سوري أكثر تعقيداً، فالقوة التي لا تُخضع سلاحها لسيادة الدولة، ستبحث في أول فرصة عن سلطة موازية، وستتحول – عاجلاً أم آجلاً – إلى خصم جديد يهدد ما تبقى من الوطن.
منهج بناء الدولة
وذكر بركات، أن البعض في سوريا يخشى “مشهد مرسي” – أي صدام المدنيين مع المؤسسة العسكرية – لكنه يتغافل عن مشهد أخطر بكثير، هو مشهد الخرطوم، حيث تحولت الميليشيا إلى جيش، والجيش إلى طرفٍ في حرب أهلية مفتوحة، وهذا الخطر هو ما يجب التحذير منه اليوم قبل الغد، لأن مقدماته تتشكل بالفعل في شمال شرق سوريا، تحت شعارات براقة عن الإدارة الذاتية والتمثيل المحلي، بينما الواقع يقول إننا أمام مشروع دولة داخل الدولة، يملك جيشه وسجونه وحدوده الخاصة.
من هنا، فإن التعامل مع “قسد” – أو أي قوة أمر واقع مشابهة – يجب ألا يكون -وفقاً للباحث السياسي بركات- بمنطق التسوية الشكلية أو المصالحة السياسية، بل بمنهج إعادة البناء الوطني على أساس العدالة الانتقالية، والمحاسبة على الانتهاكات، وإعادة توحيد العقيدة العسكرية تحت سقف الدولة، لا تحت أي راية فئوية أو عرقية، وإن تجاهل هذا المبدأ لن يؤدي إلى استقرار، بل إلى حرب مؤجلة تنتظر لحظتها المناسبة.
وبين أن التجربة السودانية أثبتت أن الرهان على التوازن بين الميليشيا والدولة هو رهان خاسر، وأن أي قوة لا تخضع للمساءلة ستنقلب يوماً على من صنعها، والسلاح الذي يُمنح بدافع الضرورة سيتحول في النهاية إلى أداة للهيمنة، وحينها يصبح الوطن نفسه هو الثمن.
وختم الباحث في القانون الدولي والإنساني إسماعيل بركات حديثه “للثورة “بالقول:” إن السوريين الذين ذاقوا مرارات الحرب والانقسام، مدعوون اليوم إلى قراءة الدرس السوداني بتمعّن، فالتاريخ لا يعيد نفسه عبثاً، لكنه يصرّ على التذكير بأن من لا يتعلم من تجارب الآخرين، سيدفع الثمن مضاعفاً، فالخطر واحد، وإن اختلفت الأسماء، والنجاة ليست في القوة، بل في بناء دولة تملك وحدها السلاح والشرعية والمستقبل.