قراءة قانونية في الاستنابة القضائية الفرنسية لملاحقة ضباط النظام البائد في لبنان

الثورة- نور جوخدار:

يعد التحرك الفرنسي لملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في سوريا، جزءاً من الإرادة الدولية لمواجهة إرث الانتهاكات التي ارتكبها النظام المخلوع، خلال سنوات الحرب، ويطرح تساؤلات حول قدرة المؤسسات اللبنانية على التعامل مع هذا الملف الحساس، بين مقتضيات العدالة وضغوط الواقع السياسي القائم.

وتأتي هذه الخطوة استكمالاً للملاحقات التي يجريها القضاء الفرنسي ضد بشار الأسد المخلوع وعدد من أركان نظامه، في إطار اختصاص باريس العالمي بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الكبرى بغضّ النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية الفاعلين والضحايا.

وفي هذا الصدد، أكد المختص بالقانون الجنائي الدولي والعلاقات الدولية المعتصم الكيلاني في تصريح خاص لـ”الثورة”، أن القضاء اللبناني تسلّم استنابة قضائية رسمية من السلطات الفرنسية، تطلب فيها تعقّب وتوقيف عدد من كبار مسؤولي النظام السوري المخلوع، وهم: اللواء جميل الحسن (رئيس المخابرات الجوية)، واللواء علي مملوك (مدير مكتب الأمن القومي)، واللواء عبد السلام محمود (مدير فرع التحقيق في المخابرات الجوية)، بتهم تتعلّق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أدّت إلى مقتل ثلاثة فرنسيين من أصل سوري تحت التعذيب أثناء احتجازهم في سوريا.

ويرى الكيلاني أن هذه الاستنابة تمثّل تحولاً نوعياً في مسار العدالة الدولية، إذ تُعيد طرح ملف المحاسبة على طاولة القضاء الإقليمي، وتضع لبنان أمام اختبار التعاون القضائي الدولي، في ظل تعقيدات سياسية وقانونية تحكم العلاقات بين البلدين.

وأوضح أن الاستنابة القضائية تُعرّف بـRogatory Commission أو المساعدة القضائية المتبادلة Mutual Legal Assistance – MLA تستند إلى مبادئ القانون الدولي العام واتفاقيات الأمم المتحدة، وإلى مجموعة من القوانين الوطنية في الدول المعنية وتقوم هذه الآلية على جملة من المبادئ القانونية، أبرزها:

1- مبدأ التعاون القضائي الدولي: تنصّ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية “المادة 18” على التزام الدول بتبادل المساعدة القضائية في القضايا الجنائية، خصوصاً الجرائم الخطيرة، كما تكرّس اتفاقية مكافحة الفساد “المادة 46” حق الدول في طلب وتنفيذ المساعدة القضائية، كما تعتمد فرنسا على المواد “694 وما بعدها” من قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي Code de procédure pénale لتنظّيم الاستنابات الصادرة أو الواردة حتى في غياب معاهدة ثنائية.

2- مبدأ الاختصاص العالميUniversal Jurisdiction: حيث يتاح للدول محاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، بغضّ النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية الفاعل أو الضحية، وهو المبدأ الذي اعتمد عليه القضاء الفرنسي في ملاحقة مسؤولين سوريين سابقين.

3- الأساس الاتفاقي بين لبنان وفرنسا: فرغم عدم وجود معاهدة تسليم ثنائية معلنة، فإن التعاون بين البلدين يستند إلى مبدأ المعاملة بالمثل reciprocity المكرّس في الأعراف الدبلوماسية اللبنانية ومواثيق التعاون العدلي.

4- مبدأ الاختصاص الخارجي: “المادة 20 و23” من قانون العقوبات اللبناني تجيزان تطبيق القانون اللبناني على الجرائم (جناية أو جنحة) المرتكبة خارج البلاد سواء من قبل لبنانيين أم أجانب مقيمين في لبنان، إذا لم يتم تسليمهم إلى دولة أخرى.

5- شروط التسليم: تنص “المادة 30” من قانون العقوبات تشترط على أنه لا يجوز التسليم إلا بموجب قانون أو معاهدة، وفي غيابها، لا يجوز التسليم، وأن لبنان لا يسلّم مواطنيه إلى دولة أجنبية، بل يمكنه محاكمتهم داخلياً إذا توفّرت الأدلة وفق مبدأ aut dedere aut judicare إما التسليم أو المحاكمة.

6- مبدأ التجريم المماثل Double Criminality لكي ينفّذ لبنان أي استنابة أجنبية، يشترط أن تكون الأفعال مجرّمة في القوانين اللبنانية بنفس الطبيعة، أي أن التعذيب وجرائم الحرب تُعدّ جرائم منصوصاً عليها في القانون اللبناني، خصوصاً بعد انضمام لبنان إلى اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984.

وبين الكيلاني أنه رغم مشروعية الطلب الفرنسي من الناحية القانونية، إلا أن تنفيذه في لبنان يواجه عقبات سياسية وقانونية عديدة، من أبرزها:

1- غياب معاهدة تسليم واضحة مع فرنسا، ما يجعل التسليم الفوري صعباً، وإن كانت المساعدة القضائية كالبحث والتحرّي والتوقيف الموقّت ممكنة قانونياً.

2- حالة الجنسية: إذا كان المطلوبون يحملون الجنسية اللبنانية أو جنسية مزدوجة، فإنّ لبنان لا يملك حق تسليمهم قانوناً.

3- الضمانات الإجرائية: يجب أن تتمّ أي عملية توقيف أو استجواب وفق أصول المحاكمات اللبنانية واحتراماً للحقوق الدستورية.

4- مبدأ التجريم المماثل متوافر مبدئياً لأن التعذيب والقتل تحت الاستجواب من الجرائم الجنائية الخطيرة في لبنان، مما يُجيز التعاون.

إمكانية المحاكمة الوطنية: إذا رفض لبنان التسليم، يمكنه مباشرة إجراءات تحقيق وطنية بحقّ المتورّطين تطبيقاً لالتزامه بعدم الإفلات من العقاب.

ومن منظور قانوني- حقوقي، يُعدّ الطلب الفرنسي الموجّه إلى لبنان عملاً مشروعاً يستند إلى مبادئ راسخة في القانون الدولي العام والتعاون القضائي، ويُكرّس الالتزام العالمي بمحاربة الإفلات من العقاب.

أما من منظور العدالة الانتقالية، أكد الكيلاني أن الخطوة الفرنسية تحمل رسائل قانونية وسياسية مزدوجة، فهي من جهة تعكس التزام المجتمع الدولي بمحاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة، ومن جهة أخرى توجه إشارات لسوريا بضرورة الاستعجال بإطلاق وتبني مسار داخلي جدّي لمعالجة إرث الانتهاكات والجرائم الكبرى، وأن تعيد بناء الثقة في مؤسساتها القضائية.

واختتم الكيلاني حديثه، قائلاً: إنّ العدالة الانتقالية ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة دستورية وأخلاقية لقيام دولة القانون، والتعاون مع فرنسا في هذه القضية يمكن أن يشكل نقطة تحوّل من مرحلة “العدالة الغائبة” إلى مرحلة “العدالة الحاضرة”، عدالة لا تُفرّق بين وطني وأجنبي، ولا بين سلطة ومعارض، بل تُنصف الإنسان والحق.

آخر الأخبار
هل يشهد سوق دمشق للأوراق المالية تحولاً جذرياً؟  لحظة تاريخية لإعادة بناء الوطن  وزير الاقتصاد يبحث مع نظيره العماني تعزيز التعاون المستشار الألماني يدعو لإعادة اللاجئين السوريين.. تحول في الخطاب أم مناورة انتخابية؟ صناعة النسيج تواجه الانكماش.. ارتفاع التكاليف والمصري منافس على الأرض القهوة وراء كل خبر.. لماذا يعتمد الصحفيون على الكافيين؟ إعادة التغذية الكهربائية لمحطة باب النيرب بحلب منظمة "يداً بيد" تدعم مستشفى إزرع بمستلزمات طبية إعادة الإعمار والرقابة وجهان لضرورة واحدة حملة لإزالة الإشغالات في أسواق الحميدية ومدحت باشا والبزورية محافظ درعا يبحث مع السفير الإيطالي الاحتياجات الخدمية والتنموية من الدمار إلى الإعمار... القابون يستعيد نبضه بالشراكة والحوار الموارد البشرية المؤهلة … مفتاح التغيير المؤسسي وإعادة البناء بدء مشروع تخطيط طريق حلب – غازي عنتاب كيف فرضت "البالة" نفسها على جيوب الحلبيين؟ سوريا تؤكد أمام اليونسكو التزامها بالتحديث التربوي الأمم المتحدة: بدء مرحلة ميدانية جديدة في سوريا للبحث عن المفقودين بعد سقوط النظام انتهاكات إسرائيلية ضد المدنيين وعمليات توغل هستيرية الشهر المنصرم صدام الحمود: زيارة الشرع لواشنطن تعيد سوريا إلى واجهة الاهتمام الدولي إسماعيل بركات: التعامل مع "قسد" وفق منهج بناء الدولة والعدالة الانتقالية