ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير علي قاسم:
لم يتمكن ترامب في خطابه الأول أمام الكونغرس أن يخرج من التناقض الذي يلازمه في مختلف مواقفه، ولا من حالة عدم الثبات التي بدت واقعاً يحمله في مجمل الأفكار التي يطرحها، وهو ما يملي إلى حد بعيد محددات على العالم أن يتحضر للتعاطي معها كما هي، ومن دون أن يتبين فيها حدود ومساحة الاختلاف والاتفاق التي قد تحصل.
في المحصلة .. يبدو أن السياسة الأميركية القادمة ليست على نسق واحد، لكنها لا تخرج عن المفاهيم العامة التي تحكم العناوين الأساسية، وإن جاءت في ظل مقاربة أقرب إلى التغيير في المفردات والمصطلحات، حيث الفارق بين ما كان سائداً، وما ينوي ترامب العمل عليه أن ما أخذه من هذا الجانب قام بإضافته إلى موقع آخر قد يكون أشد خطراً من سابقه.
فترامب لم يكتفِ بالعودة إلى خيار التلويح بالصداقة الأميركية مع الحلفاء، بل قدّم ما يشبه المغريات الإضافية من أجل الإبقاء على هذا التحالف، رغم شغفه الدائم بالأموال التي يجب أن تدفع مقابل الحماية الأميركية لأولئك الحلفاء، باستثناء إسرائيل بالطبع التي تبقى خارج أي سياق ومن دون أي سقوف أو خطوط حمراء، إلى الحد الذي باتت فيه بوابة لفهم السياسة الأميركية في عهد ترامب.
قد لا يكون من الصعب تفسير حالة الازدواجية والانقلاب بين لحظة وأخرى على كل ما أقدم عليه وما أجراه، لكنه يبقى عرضة لتقلبات مزاجية، سيكون من الصعب تجاهلها أو القفز فوقها، بدليل أن الخطوط العامة لسياسته في خطابه الأول لا يمكن غض النظر فيها عن الكثير من الإشارات الواضحة إلى عسكرة أميركا، التي بدت أكثر وضوحاً من سواها، وهي عسكرة لا تقتصر على إنفاق عسكري غير مسبوق، ولا على طلبه ميزانيات لم يسبق ربما لرئيس أميركي أن قدمها بهذه الطريقة، بل أيضاً في سياقات التوظيف للقطاعات الأميركية لتكون في خدمة تلك العسكرة، وأن تصب في مصلحة ذلك الاتجاه.
وبالاستنتاج البسيط فإن إعادة الانفاق العسكري الأميركي إلى مستويات قياسية لا يعود إلى أهداف ترفيهية بحتة، بل تعكس رغبة في الاستعداد لمهمات عسكرية لن تكون الأرض الأميركية ولا حدودها مسرحاً لها، وتهيئة لمغامرات قادمة كان مستشاره للأمن القومي المقال قد حدد موقعها الجغرافي وحيزها الزماني، وكانت منطقتنا واحدة منها، فيما خص شرق آسيا بالثانية، حين دعا الأميركيين إلى التحضير لحربين كبيرتين في غضون عشر سنوات.
غير أن الأخطر في المقاربة العسكرية الأميركية أن حديثها عن القضاء على داعش ظل مرتبطاً بسياق الفهم الأميركي الخاص، وكاد يبتعد إلى حد التناقض مع المفهوم الدولي لمكافحة الإرهاب، وهي المقاربة التي تحتاج إلى حل جملة من أحجياتها، فمكافحة الإرهاب لا تستوي مع الإبقاء على علاقات التحالف مع الدول الداعمة له والممولة على مدى السنوات الماضية، ولا يمكن أن تتقاطع مع المنطق في صياغة مقاربة تصلح في الحد الأدنى لتهيئة أرضية للنقاش، ولا ترقى إلى مستوى القدرة على الإقناع بتوفر الجدية في الطرح الأميركي.
الفارق ربما يكمن في نقطة واحدة ظاهرة للعيان، أن فائض النفاق في الاستراتيجية الأميركية التي أعلنها ترامب لمكافحة الإرهاب يزيد على تلك التي كان سلفه يطرحها، وأن مستوى الإسهاب في طرح الشعارات يفوق ما كان عليه سابقاً، وقد يكون الفارق الأكثر وضوحاً أن مطواعية إدارة ترامب للتغيير في مقارباتها قد تسبق سواها، وإن كان من الصعب التعويل عليها تحت أي مسمى.
خطاب ترامب كان تحشيداً عسكرياً ودعائياً أكثر من أي شيء آخر، وفي التحشيد العسكري يظل من الصعب الأخذ بأي ملاحظات هامشية، فحين يحضر الحديث عن العسكرة والحروب تغيب الأحاديث الأخرى أو تؤجل…!!
a.ka667@yahoo.com