ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
وحده العقل الأوروبي بمقدوره أن يدخل متاهة الجدل لتسويق مقارباته المقلوبة، وهو يحاول أن يفكَّ طلاسم المقولة التي يروِّج لها مسؤولوه الأمنيون والسياسيون، بأنَّ القضاء على داعش سيفاقم الإرهاب!! ووحدها أوروبا التي لا تخجل حين تحذّر من خطر القضاء على داعش، حالها في ذلك حال إسرائيل التي تجد في القضاء على الإرهاب خطراً داهماً عليها،
وإن كانت تتشارك معهما أميركا بالعمل الفعلي على عرقلة القضاء على داعش، من خلال فتح قنوات تنسيق وتعاون مع التنظيم، وصولاً إلى التخطيط والتنفيذ المشترك للأجندات والمشاريع على المستوى الإقليمي والدولي.
اللافت في التحذير الأوروبي أنه جاء على صيغة تبنٍّ للمشهد بشكل معكوس، حين رأى في القضاء على داعش خطراً يتهدد أوروبا، ولم يرَ خطر ممارسات ساستها على مدى عقود خلت، ولم يتحسَّس لمغالطات وأخطاء مقارباتهم الكارثية في العلاقة مع داعمي الإرهاب ومموليه، والمفارقة أنَّ أوروبا هذه كانت حتى وقت قريب، وربما ما زالت تعمل بشكل حثيث على تقديم مختلف أشكال الدعم النفسي والدعائي، وهي التي كانت تعرف وتعي هذه الحقيقة منذ سنوات، وقد ساهمت بشكل مباشر عبر مختلف الأجهزة السياسية والإعلامية والاستخباراتية في تشجيع الالتحاق بداعش تحت عناوين تختلف باختلاف الظرف السياسي، وتتغير بتغيير مناخ العلاقات الدولية وحسابات المصالح ومعادلات المواجهة.
لسنا بصدد الجدل في مراد المفردات التي استخدمها المسؤول الأوروبي عن مكافحة الإرهاب، ودرج على المنوال ذاته ساسة ومفكرون وحتى إعلاميون، وانتهى المطاف بهم جميعاً إلى الركون للمربع الأول الذي كان قائماً، لكنه يصلح قاعدةً لقراءة المشهد الأوروبي من زاوية المصالح التي كانت دائماً إحدى الذرائع التي قدمتها «البروباغندا» الغربية عموماً في الداخل والخارج، من أجل تبرير التعاطي والتعامل مع العامل الإرهابي كجزء من حالة وظيفية يمكن الاستثمار فيها إلى الحدّ الأقصى، من أجل تصفية حسابات سياسية عجزوا عنها بالهيمنة ومحاولة الاستلاب.
ووصل الأمر في الخطاب الرسمي والإعلامي الأوروبي إلى حدِّ شرعنة التعاطي مع المنتج الإرهابي على أنه جزء من ضرورات منظومة العمل السياسي، التي تبيح المحظورات إلى حدّ الخلط بين المصالح والأطماع، ووصلت في بعض المراحل لتكون غطاء يبرر الصفقات المشبوهة ذات الطابع الشخصي بين كثير من المسؤولين الأوروبيين وبعض المشيخات، التي أُخرجت على أنها نتاج توافق في تلك المصالح!! والتي قدمت للمشيخات غطاءً مفتوحاً في السياسة ومغلقاً في النقاش، يحول دون مساءلتها لاحقاً عن دعمها للإرهاب، أو منع طرح النقاش العلني لدور المشيخات في تمويل واحتضان الإرهاب على مدى عقود خلت، رغم ما لحق بالمنظومة الغربية من تشظيات العمل الإرهابي، الذي كان يطول أوروبا وحتى أميركا.
الأدهى ما تقدمه مقاربة المسؤول الأوروبي من تفسير للسلوك الأميركي المتماهي مع التنظيمات الإرهابية، ومع داعش على وجه الخصوص، بدءاً من عمليات الإجلاء المتفق عليها لقادة داعش، الأجانب على وجه الخصوص، وليس انتهاء بحالة التفاهم الكلي بين القوات الأميركية -المنتشرة تحت مسميات مستشارين- وتنظيم داعش، مروراً بحالة التحريض لعناصر التنظيم لشنِّ المزيد من الهجمات وتوقيتها الذي يحتاج إلى منظومة متقدمة وربما متفوقة من التخطيط والتنظيم والعمل الاستخباراتي الذي لا يستطيع تنظيمٌ أن يملكه، ولا تقدر دولة في المنطقة على توفيره، وهو ما تتفرد أميركا دون سواها في ذلك.
وهذا ما يتقاطع مع الحديث الروسي الصريح والواضح عن السلوك الأميركي في التعاطي مع مكافحة الإرهاب عموماً، بدءاً من محاولة تحييد النصرة، وصولاً إلى الكشف عن خفايا التنسيق مع داعش، والتساؤلات المشروعة التي يطرحها الدور الأميركي المريب وتحالفه المشين في تقوية التنظيمات الإرهابية، وختامها ما يجري من محاولات محمومة لعرقلة تقدم الجيش العربي السوري وحلفائه، وأخيراً ما يتكشف من محاولات يائسة للإبقاء على جذر الإرهاب من خلال نتف المرتزقة، أو ما يعتمدونه من محاكاة واقعية للدور الغربي في الاستثمار الفاضح بالإرهاب.
في المقاربة المنطقية للطرح الأوروبي والتحذير الذي ينحو باتجاهه في مختلف أوساط القرار الغربي من مخاطر القضاء على الإرهاب، يصعب على العقل أن يتقبّلها، ويستحيل على المنطق أن يهضمها، إلا في سياق الإقرار المتأخر بأنَّ هذا ما جنته أوروبا من دعمها للدول الحاضنة للإرهاب، وفي سياق الفهم المسكوت عنه لدور المشيخات وتحالفاتها الإقليمية بطابعها الوظيفي، باعتباره جزءاً من تداعيات ما اقترفته السياسة الغربية والأوروبية على وجه التحديد، وجزءاً من موبقات ما ارتكبه ساستها، حيث أوروبا التي هانت عليها نفسها وقيمها وتاريخها وإرثها ودورها، وارتضت أن تكون أداةً من أدوات منظومة الهيمنة الأميركية، تجسِّد الهوان بهاجسه الإرهابي الذي يستقصَّي عن جذر العلاقة، ويكشف عن أدبيات المقاربة والخطاب الذرائعي لأوروبا.. والقادم أعظم.
a.ka667@yahoo.com