افترشَ الأرض كساجدة عتيقة مقطعة الأوصال، وبدأ بصفع خديه بضربات متتالية، احمرار وجنتيه أعادني إلى كأسي النبيذ الاول المعتق برائحة الشهوة، أبادل تلك النوبات بلا مبالاة، فأغصان الشجر تزداد قوة كلما عصفت الرياح بأنسجتها، يتمتم بعبارات وقصص مبللة بالسواد، شخوص الماضي تسحبه إلى تلك الايام الممتلئة بالبؤس والعجز.
أمسك بكتاب كنت أقرأ منه بعض الصفحات كلما سمح لي الوقت بذلك، المشهد كان سوداوياً حتى في الصفحة التي أتمم قراءتها «شعر مايكل بحاجة إلى استنشاق الهواء، فخرج إلى الشارع، ولم يتمالك عن القاء نظرة إلى الشارع على الصبية الهيفاء المجللة بالسواد كانت عائدة من الشارع الآخر، وعبرت أمامه ثانية، بدا كأنه ثور تلقى لتوه ضربة هراوة على رأسه». أغلقت الكتاب وامعنت عيناي بالثور الذي أمامي وكأن نوبات الكلمات لم تعد تكفيه، فالخيبات لا ترافق إلا الجبناء.
شعرت بأني أحد شخوص ماضيه ويريد الانتقام منه، استمر بلامبالاة والوجع يوخز الروح بحقن التخدير، أفتح باب المنزل بخطوات هادئة وأغلقه بكل أسف وأصعد الأدراج لأصل إلى السطح المطل على الفضاء، أستنشق الهواء محدقة في السماء الواسعة بنجومها المضيئة، ينسل طيفه المقمر على الجمر المختبئ في قعر ذاكرتي، لماذا ظهر الآن، من الذي دعاه؟ ينظر إلى وجهي الممتلئ به وثغره ينسج لي حكايا الشتاء والأزقة المضاءة، والياسمين المشتهى. أحاول تبديد الصور قبل اكتمالها. أحدق بتركيز إلى نجمة حديثة الولادة نورها يضاهي صديقاتها حسناً وجمالاً، ألوح بيدي إليها لعلها تراني وتنتشلني قبل أن تونع جنائن قلبي، فالذكريات كالرياح تنتهز فرصة اهتراء الأبواب العتيقة والنوافذ لتلهب القلب وتعود إلى الاحتضار من جديد.
تعود مسرعة خوفاً من انهيار ظلها على ما تبقى من أدراج، مخاطبة روحها أسرعي فهذه الخطوات البطيئة لا تكفي فما زالت حرارة ثغره تحرقني، قبضت على أصابعها الخشبية خوفاً من ملامسة ندى فجره، تحاصرها يداه مراقصاً بهما خصرها، يتناغم جسدها مع أصابعه بلهفة المشتهى، يضع رأسه على كتفها الأيمن مشتماً رحيق نبضها المتدفق بقوة ثور هائج يحتاج إلى العديد من ضربات الهراوات حتى يستيقظ.
يهتز ربيعها الداخلي مع أولى نسائمه، تغرغر نوافير المياه من كل صوب، تموج الكلمات والحركات في سهول خضراء تلفها خيوط الشمس بأصابع النور، وتمضي في مسيرها كخيط منحن متناهي التعب، تصل إلى باب الغرفة، وحبات الندى تورق لمعاناً من مسام جسدها النحيل مدغدغة ضميرها المحتضر، تلتقط لهاث أنفاسها، تمسح وجهها بمنديل كان في جيبها، وتدخل بأصابع الخوف متجهة نحو صنبور الماء لإخماد حرائق الحنين المتدلية كعرائش العنب من خلف سياج الذاكرة.
يلتصق بأصابع قدمها اليمنى شيء ما، تنظر إلى الأسفل، تجد صورة معلقة على سطح كاحلها، تنحني بحذر خوفاً من انكشاف أمرها، فالخيانة جريمة لا غفران لها في الأعراف البهيمية، تمد يدها بحركة خفية وتلتقطها، تقلب بعينيها الوجوه المعلقة على حائط الصورة، يغوص قلبها في واد عميق، تنظر إلى الأرض تجده ممدداً وحوله عشرات الصور لماض جميل معتق برائحة عطرها، تجلس بالقرب منه تمسح بالمنديل نفسه ندى عينيه المعلقتين في سمائها.
رانيا عثمان