تعد حرفة الحفر على خشب الزيتون من أقدم الحرف التقليدية في فلسطين، لما لها من دلالة شعبية أصيلة وتقاليد اجتماعية، إذ تطورت هذه الصناعة إلى إنتاج قطع دينية تسوّق إلى السيّاح. كانت القدس أشهر المدن الفلسطينية اختصت بحرفة الحفر على خشب الزيتون، ويدل تقصي تاريخ تلك الحرفة إلى أن عين كارم القرية القريبة من القدس، هي أول من أتقن هذه الحرفة. كما تخصصت محافظات مدينة بيت لحم في تصنيع تلك القطع التراثية الفنية، فتخصصت منطقة بيت جالا بإنتاج الجمال والأحصنة، وبيت ساحور بصناعة التماثيل الدينية، أما مدينة بيت لحم فانتشرت فيها الأكواب والأواني الخشبية(1).
يعود تاريخ حرفة الحفر على خشب الزيتون إلى القرن السادس عشر الميلادي، إذ كانت البداية صناعة (المسابح) من نوى حبات الزيتون، ومع تقدم الصناعة قدمت مقاربة فنية وملموسة لطبيعة الحياة التي عاشتها السيدة مريم العذراء وابنها السيد المسيح، فكانت التماثيل الخشبية ليسوع وأمه ومجسمات الأماكن الدينية ككنيسة المهد وكنيسة القيامة وقبة الصخرة والمسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي، وصنعوا المصابيح والشمعدانات وأواني الأزهار والصلبان والقلائد والأمشاط الخشبية التي آلت إلى الانقراض اليوم بسبب انتشار الأمشاط البلاستيكية(2).
تزدهر هذه الحرفة في الاحتفالات الدينية بأعياد الميلاد وتوافد الحجاج المسيحيين إلى المدينة المقدسة، والمعروف عنهم أنهم يحرصون على اقتناء التحف المصنوعة من خشب الزيتون التي تعدّ شجرة مباركة تم ذكرها في الكتب السماوية، ما شجع الحرفيون على صناعة أنواع متعددة والتفنن في حفرها وزخرفتها.
ويعدّ الخشب المروي من أفضل أنواع الأخشاب المستخدمة نظراً لجماليته وقدرته على التحكم بدقة الحفر والتصنيع، ويستخدم في هذه الصناعة خشب الزيتون الضعيف التي لا يحمل ثماراً وهذا لا يسبب أضراراً على القطاع الزراعي. قبل العام 1967م كانت أغلب الأخشاب تجلب من سورية والأردن، أما بعد الاحتلال، فقد أصبحت مناطق رام الله ونابلس هي المورد الأساسي لهذه الأخشاب والتي تمتاز بصلابتها ومتانتها وليونتها، ما يجعلها أكثر طواعية للحفر، كما تمتاز بجمال العروق. ولقد استفاد حرفيو الأخشاب من تلك الميزة؛ أي من تموجات ألوانه واعتمدوا عليها في زخرفة إنتاجهم، فلم يلجؤوا إلى التطعيم بالأصداف أو العظم أو النحاس أو العاج أو المعادن الأخرى، فكلما كان عمر الشجرة أطول، كانت الألوان زاهية ومناسبة أكثر للأشغال ذات التفاصيل، كما تنبهوا إلى جمال الخشب، فلم يشوّهوه بطلاء خارجي، بل اكتفوا بمسحه بزيت الزيتون أو بقليل من مادة ملمعة، إضافة إلى تميز شجرة الزيتون بقدسيتها الدينية، فهي شجرة مباركة في كل الأديان.
تعتمد حرفة خشب الزيتون على مهارات يدوية بحتة في تشكيل القطع الفنية، ويستغرق التدريب على هذه المهنة فترة طويلة، حيث يبدأ العمل على التدريب منذ الطفولة ضمن ورشات العمل، ويتم العمل بأدوات بسيطة في السابق، أما اليوم فقد أدخلت الآلات الكهربائية على تلك الحرفة، إذ تقوم الآلة بتقطيع الخشب وتحويله إلى نماذج مرسومة مسبقاً، وبعدها لابدّ من العودة إلى العمل اليدوي لإعطاء القطعة تفاصيلها الدقيقة وشكلها النهائي.
تبدأ مراحل العمل من تجفيف الخشب بعد الحصول عليه في مكان جيد التهوية لمدة عام تقريباً حتى يجف تماماً من الماء الموجود فيه ، وبعد ذلك يعالج بمادة كيميائية لمعرفة أماكن التسوس واستبعادها فيه والإبقاء على الصالح منه، ثم فرز الأخشاب بحسب الحجم المناسب لكل قطعة فنية يراد تصنيعها، بعدها يبدأ النحات بقص الأشكال التي يريدها بالمقص والمنشار اليدوي أو الآلي، ثم تبدأ عملية الزخرفة المتقنة على يد حرفي فنان متمكن من حرفته. وبعد الحف بورق الزجاج ودهن القطعة بالزيت أو بمادة ملمعة شفافة، يمكن ترك القطعة كما هي.
يستخدم الحرفي من خلال ما سبق أدوات يدوية بسيطة كالمنشار لتقطيع الخشب وإزميل ومطرقة أو الآلة الكهربائية للتفريغ والحفر وورق الزجاج للتنعيم والحف وأخيراً مادة ملمعة ورنيش (لكر) أو زيت الزيتون.
وللحفر على الخشب عدة أنواع، منها الحفر البارز المسطح: وفيه يصل ارتفاع الزخارف المحفورة إلى حوالي خمسة سنتمترات، ويكثر غالباً في تصميم الميداليات والزخرفة الإسلامية.
الحفر البارز المشكل: وفيه يزداد ارتفاع الزخارف والأشكال المحفورة على الأرضية بأكثر من نصف سم ويصل إلى حوالي سبعة سنتمترات على أن تكون الأرضيات كلها متساوية العمق.
الحفر البارز المجسم: وهو كالحفر البارز المشكل ولكنه أكثر بروزاً وعمقاً في الأرضيات التي يجب أن تكون متساوية في عمق واحد، وقد تصل فيه ارتفاعات الزخارف المحفورة إلى خمسة وعشرين سنتمتراً، لتعطي تأثيراً أقوى. ويصلح استخدام هذا النوع في الحفر في الأماكن البعيدة عن النظر ومعظم موضوعاته من الكائنات الحية.
الحفر المفرغ: وهو الحفر لتشكيلات مفرغة بمنشار خاص بالتفريغ والمحفورة في الوقت نفسه على أن تتماسك وحداته ويستخدم في الإطارات الثمينة.
الحفر الغائر: عكس الحفر البارز وفيه تكون الزخارف المحفورة إلى الداخل مع ترك الأرضيات كما هي بدون حفر أو نقش، وهي تستخدم في المناطق القليلة الضوء كأماكن العبادة والمقابر، فتساعد الظلال على إظهارها بوضوح.
الحفر المجسم: وهو أدق أنواع الحفر، ويشمل الحفر على كتل بقصد تشكيلها وتجسيمها، ولا يكون لها سطح مستو، بل ارتفاع وانخفاض حسب الشكل المطلوب وأكثر استخدامه في النحت(3).
ولكن وبالرغم من بساطة الأدوات المستخدمة وتوافرها في أي مكان، إلا أن استخدامها يعرض الحرفيين لمخاطر كبيرة، فقد يؤدي أي خطأ صغير لكارثة كبيرة كبتر أحد الأصابع وربما اليد أو طرقها ما يؤدي لكسرها وربما ضرر الأظافر واقتلاعها. وهناك مخاطر أخرى تواجه الحرفي الفلسطيني بشكل خاص وصعوبات جمة، من تلك الصعوبات شحّ خشب الزيتون نتيجة الحصار وإغلاق الحقول وإقامة المغتصبات الصهيونية على الأراضي الفلسطينية التي أدت إلى اقتلاع آلاف أشجار الزيتون، وقيام الكثير من المزارعين بعملية تشذيب الأشجار ما يؤدي على عدم توفر الأجزاء المناسبة للحفر، فالحرفي يحتاج الأجزاء الجافة للحفر.
وبسبب أهمية تلك الحرفة للتراث الفلسطيني، فهي تعدّ سفيرة فلسطين للعالم، لعب الاحتلال الإسرائيلي دوراً في تشديد الخناق على الأسواق الفلسطينية والتحكم في طرق المواصلات ووضع الحواجز في طريقها على مداخل مدينة القدس وبيت لحم مثل حاجز (الكونتير)، وعمل على نشر قطع مزورة في الأسواق بأسعار رخيصة بهدف منافسة حرفة الحفر والقضاء عليها.
تقيد حركة السكان الفلسطينيين بين المدن وصعوبة التجوال وطلب تصاريح للتنقل من منطقة لأخرى والحدّ من عدد الزوار الأجانب في مواسم الحج والسياحة، وتقيدهم بوقت محدد لا يكفي للتجوّل في شوارع المدينة والتسوق، وبالتالي عدم الاستفادة الاقتصادية السياحية؛ ما أثّر سلباً على تطور الحرفة وأدى إلى كساد البضائع في الورشات. إضافة إلى عدم الاهتمام الحكومي والدولي بالقطاع الثقافي والحضاري والحرف والحرفيين بسبب الأوضاع السياسية، بالرغم من أهميتها في إثبات الحق الفلسطيني على الأرض وحاجتها للاهتمام وتوفير الدعم والرعاية للحرفيين وورشاتهم وإنتاجهم.
يبلغ عدد المتاجر لهذه المنتجات التراثية ما يقارب ستمائة متجر، نلاحظ نسبة الأعمال المقدسية فيها ما يقارب 35% أما أعمال مدينة بيت لحم حوالي 51%في حين يقدر عمل الورشات العاملة مائة ورشة، منها خمسون في القدس وخمسون في بيت لحم. ويقدر عمال هذه الحرفة بـ ثلاثمائة عامل(4) في بيت لحم. ويتخذ العمل الطابع العائلي غالباً، وهي ورشات خاصة تتبع عادة لمنزل الحرفي ومكان سكنه وتورث للأبناء والأحفاد من بعده.
حرفة الحفر على خشب الزيتون تنشر عبق زيتون فلسطين في أرجاء العالم وتحيي تراث فلسطين وتوثق تاريخها، وهي نتاج حضاري هام يجب دعمه وحمايته وإحياؤه وتطويره عن طريق وضع برنامج تدريبي تأهيلي يمزج الجانبين التطبيقي والنظري ويرفع كفاءة العاملين ويزيد من أعدادهم. إضافة إلى وضع استراتيجية تسويق كاملة والتركيز على الجانب الإعلامي بشكل يبرز أهمية الحرفة الدينية والتاريخية والسياحية لفلسطين ، وتسليط الضوء على المعارض والمهرجانات العالمية المهتمة بالتراث والتاريخ الفلسطيني وتسويقه. والتنسيق مع المغتربين وإقامة المبادرات وتمويل المشاريع الصغيرة وتطويرها عن طريق الحملات الإعلامية مع صيحات ندائية لزيارة تلك الأماكن المقدسة والتعرف على معالمها وأسواقها وتراثها، وهو ما يحاول العدوان الإسرائيلي محوه والقضاء عليه.
أخيراً وليس آخراً، من يمسك تلك القطع القديمة الحديثة في يده ويتأملها بكلتا مقلتيه وفؤاده يجد فيها ماضياً عريقاً وحاضراً حزيناً وتاريخاً متجذراً كما كانت جذور تلك الشجرة، ومن يشمّ رائحة تلك القطع الخشبية، فهو يشتم رائحة الزيتون الفلسطينية ممزوجة برائحة دم شهدائها الطاهر، فهي الشجرة المقدسة المطهرة بدماء أحيائنا عند الله.
(1) نجيب. أيمن يوسف، المقومات السياحية في محافظة بيت لحم، نابلس، أطروحة ماجستير بجامعة النجاح، 2011، ص41
(2) الموسوعة الفلسطينية، ط1، م2، هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1984م.
(3) اسلام. يوسف، الحفر على الخشب، فن الخشب،10 يناير2014.
(4) نجيب. أيمن يوسف، المرجع السابق، ص42
نجلاء الخضراء