كان هذا قبلَ نحو عشرين عاماً؛ فلماذا أتذكّرُهُ اليوم؟! كنا نجلسُ إلى طاولةٍ خشبيّة غَير مُهذَّبةٍ من خشب الدوب؛ على شاطئ نهر الدنيبَر في كييف؛ أذكُرُ أنني قلتُ لها من جُملةِ ما قُلته: «تشغلني دائماً القضايا الكُبرى في الوجود، وتستغرق الكثير من تفكيري» ضحكت ضحكةً عذبة، وقالت: «يلزمُكَ يا بني طبيب قبل فواتِ الأوان»،
وتوقفت قليلاً ثُمّ أردفت: أمّا أنا فأعتقدُ أن علينا أن نعيشَ لأجلِ التفاصيل الصغيرة، المُتع الناعمة.. أن نعيشَ مثلاً لأجلِ شروقِ الشمسِ في الخامسة صباحاً، وغروبِها في الخامسة مساءً. أن نعيشَ لأجلِ نزهاتِ الدروب والهواء الذي يبعثرُ شعرنا.. أن نعيشَ لأجلِ الرقصِ تحت المطر، لأجل الضحكِ حتى نَشْعُرَ بالألم في البطن! لأجل الأُغنيات المحبوبة، والكُتب الجيّدة… لأجل الحواراتِ والنقاشات الطويلة التي تتخلّلها ضيافةٌ بسيطة كقطعَةِ كعكِ مع كوب شاي.. لأجلِ ابتساماتٍ طيّبة دونَ هدفٍ مُحدّد، أن نعيشَ لأجلِ بريقٍ غامضٍ في العينين، وراحةٍ بعدَ نهارٍ طويلٍ مُتْعِب.. لأجلِ مُغامراتٍ ليليّة عذبة ولأجلِ نجومٍ ترافِقُكَ وأنت عائدٌ منها إلى البيت.
أن نعيشَ لأجلِ الأشخاص الذينَ يذكرونَ أنكَ تحبّ القهوة دون سكّر.. وتكره البصل، أن تعيش لأجل القبلةِ الأولى لأجلِ ضمّةِ حنان.. وتعارفٍ جديد.. أن تعيش لأجلِ هديّةٍ غير متوقّعة ولأجل كلمة «نعم» تنتظرها منذُ زمنٍ بعيد… ينبغي يا صديقي أن تعيش لأجل تلك الصغائر التي تجعلكَ دوماً تُحسّ أنكَ حيّ!!
اليوم بعد عشرين سنة من هذا الكلام لاشكَ عندي أنّها كانت على حق.. وأنها ظلت مخلصة لوصاياها… أما نحن فمشكلتنا أننا نولدُ كباراً…
نحن لا نعيش طفولتنا وفتّوتنا…
الأحد 28-10-2018
د. ثائر زين الدين
رقم العدد: 16821