من النماذج التي تؤكِّدُ أنّ شعرنا العربي القديم لم يكن خاضعاً بشكلٍ مطلق لنسقٍ ثقافي فحولي -كما يطرح البعض- هو الشاعر مسكين الدارمي (ت: 708م)، ومسكين لقبٌ غلبَ عليه، واسمه الحقيقي ربيعة بن عامر من بني دارم.
علام تغارُ إذا لم تغرْ؟
وما خيرُ بيتٍ إذا لم يزر؟
وهل يفتن الصالحات النظر
فتحفظ لي نفسها أو تذرْ
فلن يعطيَ الودّ سوطٌ ممرّْ
ذا ما رأى زائراً أو نفرْ
إذا ضمَّهُ والمطيَّ السفرْ؟
ما ميّزَ هذا الشاعر هو دفاعهُ عن حريّة المرأة بصورةٍ نادرة في زمنه، بل وسنجد مفاهيمه تتجاوز الكثير من أفكار أبناء القرن الواحد والعشرين، في الشرق العربي، لنقرأ مثلاً ما قاله ساخراً ممّن يغار على زوجته، ويخشى عليها عيون الناس:
ألا أيها الغائرُ المستشيطُ
فما خير عرسٍ إذا خفتها
تغارُ على الناس أن ينظروا
فإني سأخلي لها بيتها
إذا الله لم يعطهِ ودّها
يكادُ يقطع أضلاعهُ
من ذا يُراعي لهُ عِرسَهُ
من الطريف تماماً أن نقرأ لهذا الشاعر الأموي، مثل هذه الدعوة إلى حريّة المرأة وإلى زيارة الأصدقاء لها في البيت، حتى في غياب زوجها، بل نرى الشاعر يحمل على كل من يغار على امرأته، إذا استقبلت الزوار، أو إذا ما سافرَ في عمل، ونراه يهاجم من يرى أن ضرب المرأة، وحبسها في بيتها يستطيعان حفظَ مودتها له، وتعلقها به.
وستقدم مجموعة من القصائد الشاعر إنساناً متجاوزاً لمفاهيم عصره، في العلاقة الزوجيّة فهو يمنح امرأته الثقة، ولا يمنعها من الخروج من البيت، كغيره ممّن يجعلونَ منزل المرأة قبراً لها قبل موتها، وهو لا يحاصرها بشكوكهِ، وبخوفه عليها من الذكور الآخرين:
وإني امرؤٌ لا آلف البيت قاعداً
ولا مقسمٌ لا تبرحُ الدهر بيتها
إذا هي لم تحصن أمام فنائها
ولا حاملي ظنّي ولا قيلُ قائلٍ
إلى جنبِ عرسي لا أفارقُها شبراً
لأجعلَهُ قبلَ المماتِ لها قبراً
فليسَ بمنجيها بنائي لها قصراً
على غيرةٍ حتّى أحيط بها خبراً
والأبيات تؤكّدُ عدم الانجراف وراء تقوّلاتِ الناس، وظنونهم وشكوكهم، فإذا كان الرجلُ قادراً على صيانة المرأة، ومنعها من السقوط وهو إلى جوارها، فكيف سيكون الأمرُ عندما يسافر ويغيب عنها، لأيام وشهور؟ أليست المودّة والثّقة والوفاء هي الأقانيم التي تمنع الأنثى من الانحراف، ويكرّر مسكين أطروحته تلك في أشعار أخرى، ويضيفُ إليها معاني جديدة، ويعترف بأن الكائن البشري كائن يغار.. ولكن الغيرة جميلة في وقتٍ محدّد، وقبيحة حين تزيدُ عن الحد:
ما أحسن َالغيرة في حينها
من لم يزلْ متّهماً عرسهُ
يوشك أن يغريها بالذي
حسبكَ من تحصينها ضمُّها
لا تَظْهَرَنْ منك على عَوْرةٍ
وأقبحَ الغيرةَ في كلِّ حينْ
مناصباً فيها لوهم الظنون ْ
يخاف أو يَنصِبَها للعيون ْ
منك َإلى خلقٍ كريم ٍ ودينْ
فيتبعَ المقرونُ حبل القرينْ
والجميل والمتجاوز لزمنهِ في الأبيات أن يعترفَ الشاعرُ الذكرَ بحق المرأة في معاملة الرجل بالمثل، فإن رأت منه قباحة أو خيانةً، فمن حقِّها أن تفعلَ ذلك، وبالتالي فالرجل والمرأة متساويانِ في هذه الأمور؟! وعلى الزوج إذاً أن يمتنع عن فعلِ ما يريب ولا سيّما خيانة الزوجة، فعندها يحصّنها من الانحراف، ولا سيمّا حين تكون على خلقٍ كريمٍ.-كما يرى الشاعر.
وأخيراً فقد أردت من خلال تقديمي هذا النموذج -وهو ليس الوحيد في شعرنا القديم- أن أؤكّدَ أن هناك أصواتاً انتصرت لصوت الأنوثة، وحاولت من داخل البنية الثقافية نفسها أن تفضح وتعرّي تجنيّات صوت الفحولة، وهيمنته وتهميشه لسواه… وبالتالي ليسَ لأحد أن يعمم بصورةٍ مطلقة فكرةَ هيمنة النسق الذكوري الفحولي على شعرنا العربي، ومنه على ساحة اللغة والكتابة كلّها إلى يومنا هذا.
د. ثائر زين الدين
التاريخ: الأحد 25-11-2018
الرقم: 16844