لم أكن قد تجاوزت الثامنة من العمر حين سمعت اسمها لأول مرة (وادي البركة) همس وحديث وإعجاب بها، قرية على تخوم قريتنا، لكنها في واد سحيق على ما يبدو، تحت شجرة التوت كان الرجال يبدون الإعجاب بما تحقق في هذه القرية، الأرض الزراعية الضيقة والمحدودة تعطي أكثر من موسم في العام، من السلق إلى الفجل،
وما في قائمة الخضراوات الموسمية قصيرة الدورة الزراعية، يردف رجل آخر: كل شيء يصبح موجودا ببركة الماء، ويضيف آخر: إنهم رجال لقد جمعوا الماء، مسيل الجبل يصب في البرك التي بنوها، وأحسنوا بناءها فغدت خزانات ماء كبيرة، تتوضع دائما في أعلى (الحاكورة) ليسهل انسياب الماء بسلاسة وبلا صعوبة.
وتأتي الفرصة سانحة عندما اعتزمت أمي وبعض النسوة زيارة القرية المذكورة لتقديم واجب ما، نلحق مجموعة أطفال بهن، مسير شاق ومتعب لكنه وسط وديان، وغابات جميلة وننحدر إلى القرية، يبدو المنظر مدهشا مسطحات مائية كبيرة، أوقعت الرعب في نفوسنا، يا لغرابة ما نرى، لا نجرؤ الاقتراب منها، فقد سمعنا الكثير عن أطفال قضوا غرقا فيها، ولا نجيد ألف باء التعامل مع الماء.
تنتقل فكرة حصاد الماء إلى القرى المجاورة، ومنها قريتنا، وتغدو الخزانات مصدر العطاء، بعضها للشرب يجمع ماؤه من على الأسطحة المنظفة جيدا، وما يساق إلى البرك الزراعية يأتي من الزواريب التي تفيض وتمضي إليها، تملأ مرات ومرات، ومن ملأ بركته قبل جاره، يدير الماء إليه، وأحيانا كثيرة تؤدي خراطيم الماء الدور الكبير بنقل ما ينقص من مسافات بعيدة.
حصاد الماء الوفير، يخزن للصيف، للتبغ، وبعض المزروعات التي تخصص للاستهلاك المحلي، مواسم المطر في الساحل السورية تدهشك، بساعات قليلة يصل المعدل إلى أرقام عالية، معظمها بعد ملء البرك يمضي إلى البحر عبر الأنهار، ومساحات من الأراضي الزراعية تنتظر هطلات الصيف، لا أحد يفكر بإحداث سدات مائية، تهدر كميات كبيرة، ويحل الصيف، وتبقى بعض الغدران تلوح في المسيل، ويضرب اليباس الشجر والبشر والحجر، ما أصعبها من مفارقة طوفان في الشتاء، شح في الصيف.
أراض زراعية على الرغم من ضيق مساحتها لكنها كفيلة بأن تكون مورد رزق وعطاء، وقد أحسن الكثيرون استغلالها والوصول إليها عبر طرق ترابية ضيقة ووعرة، ولكن من بيده الحل والأمر لم يفكر يوما ما بشق طرق زراعية إليها، ولو فعلوا ذلك لحموا الكثير من الغابات، ومنعوا انزياح التربة، ووضعوا مئات الدونمات بكل قرية موضع الاستثمار الفعلي، مطر الخير كل عام في المنطقة الساحلية يفيض ويمضي إلى البحر، نسمع عن سدات هنا وهناك، ولكن يبقى ذلك دون ما يطمح إليه من أجبروا على ترك أرضهم، ما الذي يضير أن تعود فكرة الطرق الزراعية من جديد، وأن تبنى السدات المائية وتحصن بالكثير من الوديان والمسيلات، وما أكثرها …
وادي البركة القرية الساحرة الجميلة كانت الأسبق بفكر الفلاح وملاحظته وقدرته على الإنجاز، ومن المؤكد أن قدرة الحكومة على التنفيذ هي أضعاف أضعاف ما لدى الآخرين، ولكن من يفكر بمن، وكيف، سؤال المطر الغزير يصب في بحر هائج، ربما لايجد جوابا إلا كالعادة: نخطط، ندرس، نرصد، نضع حجر الأساس، وعش يا ……
معاً على الطريق
ديب علي حسن
التاريخ: الجمعة 14-12-2018
الرقم: 16860