الملحق الثقافي:
يبدأ الكاتب ديب علي حسن كتابه «ثنائية الثقافة والإعلام.. من الرسالة إلى الاستلاب» بتداع حميمي لذكرياته الشخصية. إنه هناك في مدينته طفل صغير يرمق مجلة معلقة على جدار مكتبة، وهو لا يجرؤ على السؤال عن ثمنها. ثم يكبر ويصبح مهووساً بالعمل الصحفي، ويدرس في كلية الآداب لعدم وجود كلية للصحافة. يتابع الزمن سيره، ويتابع ديب الاقتراب من عالم الصحافة، العالم الذي يحبه ويهواه، وينجح في رسم أولى حروفه في مجلة ثقافية سورية. تعترضه الكثير من العقبات، ولكنه يستمر في التفاؤل، وأخيراً يحقق ما يصبو إليه. يتقدم بثقة في طريق الصحافة الثقافية، ويستحيل صحفياً فاعلاً في الصحافة الثقافية.
بعد تجربة تجاوزت ثلاثين سنة في أروقة الصحافة، تتبلور الأفكار، ويصبح للقول تأثير مختلف. وهذا ما يدفع بالكاتب إلى أن يرى الإعلام من زواياه كافة، ويشير إلى مواطن خلله، ويثني على نقاط قوته. يقول: «إعلامنا وثقافتنا بخير، إذا ما أحسنّا إعداد أنفسنا. والثقافة والإعلام جناحا الفكر والنهوض والتنوير، وبالتأكيد لا بد من مال وطاقات وتدريب وعمل دؤوب من أجل ذلك».
يعنون الكاتب الفصل الأول «من الرسالة إلى الاستلاب» ويركز فيه على تغول الرأسمالية ومحاولتها فرض ثقافتها وإعلامها على العالم أجمع ويقول: «هذه هي الثنائية التي تشكلت بين الإعلام والثقافة، وأصبحت سلاحاً بيد الرأسمالية التي تطور أدواتها باستمرار، وتعمل جاهدة للاستحواذ على العالم الثقافي.. وهذا يؤشر إلى تغير أساسي في العلاقات الإنسانية مع نتائج مقلقة لمستقبل المجتمع، والعالم التجاري كان مشتقاً دائماً من العالم الثقافي، لكنه الآن يطغى عليه ويحتويه ويوجهه حسب ما تخطط له الرأسمالية. وعندما يبدأ عالم التجارة بافتراس العالم الثقافي، يؤدي ذلك إلى تهديم الأسس الاجتماعية ذاتها التي وراء السبب في بروز العلاقات التجارية». إذاً، فالتوحش الرأسمالي وشغف السيطرة يتجاوز حدود الاستلاب التجاري الاقتصادي إلى الاستلاب الثقافي. وهدف هذا الاستلاب هو تدجين الآخر وتحويله إلى مسخ فاقد الإرادة والفعل وحتى القول، وبالتالي إلى مستهلك بالمطلق.
المحل الاجتماعي
تُصدر الإمبريالية الأمريكية كتباً وترسلها إلى العالم أجمع، بهدف جعل العالم مرهوناً بإنجازاتها الفكرية، ويقول جون ديوي: «قل لي أي شعب داجن تريد لأصممه لك». ولكن ما دور الدول المستهلكة؟ يجب الكاتب على لسان أحمد حيدر: «إن المحل الاجتماعي قد تغلقه الدول المحلية التي تنتمي إلى العولمة، وقد تغلقه الأيديولوجيا الزائفة التي تحول قضايا المجتمع الأساسية إلى شعارات لا تنوي تحقيقها، شعارات للتمويه الإعلامي وحسب.. هذه النخبة التي تنفذ أدوات الاستلاب، لا تخاطب العقل، ولكنها تخاطب الرغبة العطالية، فخطابها هو خطاب غواية أو إغراء، يجذب الجمهور إليها بما يشبه الاستهواء، وهكذا يفرغ المحلي الاجتماعي من القيم الثقافية الحقيقية، ويمتلئ بإعلام السلطة وأهواء الطبقة الملحقة بها، فالثقافة تفقد دورها الاجتماعي، وتصبح خارج الرهان بين أجيال، فالكلمة الحقيقية تصبح ترفاً فائضاً عن اللزوم، وتصبح مغامرة خطرة تحمل صاحبها إلى الباستيل. وتحتل الساحة الثقافية نماذج لا تحمل القيم على محمل الجد، نماذج عدمية، ساخرة، مغلقة على غرائزها ورغباتها الخاصة».
إن من يربح معركة الثقافة والإعلام، هو الذي يسيطر على المستقبل. والرابح هو الأكثر قدرة على الإقناع وتحويل العقول إلى الوجهة التي يريدها، أي إلى المكان الذي يخصصه للآخر للسيطرة عليه وتدجينه، وجعله ينفذ ما يريده منه بالضبط. وهذا ما يسميه ديب علي حسن «التلاعب بالوعي» بهدف غسل العقول والأخذ بها إلى أماكن أخرى غير التي يجب أن تكون عليها.
بناء الوعي
كيف يمكن أن نحصن أبناءنا في هذا العالم المفتوح؟ كيف يمكن أن نبني صرح الوعي أمام تقنيات الإعلام ووسائل التواصل التي تعمل بسرعة الضوء؟
يرى الكاتب أننا اليوم بحاجة إلى إعلام يثرى بالثقافة، وثقافة تعمقه، ليكونا جناحين للمواجهة الفكرية التي هي بالمحصلة أساس أي انتصار. يجب أن يتم السخاء على الثقافة والإعلام وأن يصرف عليهما. ويتساءل الكاتب: «أليس من الواجب أن نحمي منشآتنا الكبرى بالوعي والثقافة والمعرفة وترسيخ الهوية الوطنية؟ أليس هذا ما نسعى إليه؟ ألا يتحدث الجميع الآن عن أهم مراحل إعادة الإعمار، أعني بناء الإنسان؟».
على الأدب أن يستعيد دوره الريادي في بناء الوعي، حيث أن الأدب قد فقد دوره في العالم الثالث المسلوب الإرادة والوعي والغائص حتى الغرق في الميديا وهو يستهلك كل ما يصدر إليه من الغرب فكراً ومعرفة وسلعاً من غير وعي ولا قدرة على التمييز. ويضرب الكاتب مثلاً على دور الأدب الروسي في عملية الارتقاء بمستوى الشعب الروسي فكرياً وتعظيم مكانة الدولة الروسية «غير أن الارتقاء بالثقافة الروسية عموماً والأدب على وجه الخصوص وصدور روايات تولستوي ودوستويفسكي، جعل مشاعر الكراهية والعداء والاحتقار والرفض من قبل الغرب لروسيا تتبدل بمشاعر جديدة يسودها الفضول والتعاطف والانبهار. واعتبر الأدب الروسي في منتصف ونهاية القرن التاسع عشر واحداً من أهم ثلاثة اتجاهات أدبية عظيمة في الأدب العالمي، ومنح روسيا احتراماً من العالم كله. وبفضل الأدب الروسي اكتشف العالم درجة الوعي الروسي والفكر الروسي واستوعبه واعترف به». إذاً يمكننا من خلال الأدب أن نشيد صرح أمة عظيماً، ونجعل الغرب يعترف بعظمة ما ننتج ويتلقفه بكل سرور وامتنان.
النخب
كيف يمكن لنا أن نحدد مفهوم النخبة؟ ما هي النخبة؟ يجب الكاتب بأن النخب شكلت ظاهرة سياسية اجتماعية هامة في التاريخ، ويشكل مفهوم النخب أحد المفاهيم الاستراتيجية الموظفة منهجياً في تحليل الظواهر الاجتماعية والإنسانية، ولا سيما القضايا الاجتماعية التي تتصل بالسلطة والطبقة وتوزيع الثروة والتطور الاجتماعي والتنمية. وتشكل النخب «واحدة من الظواهر الاجتماعية الفكرية العصية إلى حد كبير على مختلف عمليات الضبط والرصد والتحليل، وذلك لأن هذا المفهوم يشكل أحد المفاهيم الاجتماعية التي يصعب ضبطها ورصدها وتحديد سماتها ومتغيراتها، وذلك لأن المضامين الاجتماعية التي تشكل محتوى هذا المفهوم شديدة التغير وتتميز بطابعها الدينامي في إطار الزمان والمكان».
يتطرق الكاتب إلى فصام المثقفين، ويستشهد بحوارات مع المفكر علي حرب، حيث يقول حرب: «أعني بالأزمة جهل المثقفين بالواقع المراد تغييره، وفضائحهم اللاديمقراطية داخل قطاعهم الخاص، إفلاس مشاريعهم النضالية في التنوير والتحرير، أو في التغيير والتحديث، باختصار فقدان المصداقية الفكرية وانعدام الفاعلية المجتمعية والسياسية، بل يمكن القول إن المثقف لم يناضل منذ عقود إلا لكي يثبت تغير مشاريعه أو فشل أفكاره وشعاراته». ويخلص علي حرب إلى أن المثقف في الوطن العربي تحول إلى مجرد داعية يشتغل بترويج الأفكار ولوك الكلام على الحريات والقيم العامة، فإذا النتيجة تمزيق الأوطان وتراجع الحريات.
يتشعب بحث الكاتب إلى عدة مواضيع، بينها علاقة الإعلام بالثقافة، والخطاب الإعلامي وميديا الاستلاب، وعلاقة الإعلام باللغة، وكل هذا المواضيع تؤلف وحدة متكاملة عن علاقة الإعلام بالثقافة والمجتمع ككل.
جاء الكتاب في 284 صفحة من القطع الكبير.
-ثنائية الثقافة والإعلام- من الرسالة إلى الاستلاب
-الكاتب: ديب علي حسن
-الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب
التاريخ: الثلاثاء 8-1-2019
رقم العدد : 16879