الملحق الثقافي:
د. محمود شاهين
مع مزاحمة الصورة الضوئيّة للفنون التشكيليّة، على مهامها ووظائفها التقليديّة في التأريخ والتوثيق لمسيرة الحضارة الإنسانيّة، عبر أحقابها المختلفة، وُضعت هذه الفنون أمام حائط مسدود، ما جعلها تنكفئ لتحصر إنجازاتها في لغتها البصريّة، وأطروحاتها الشكلانيّة، بعيداً عما يتوارى خلفها من أفكار ومعاني. وهكذا بدأ الفنان التشكيلي المعاصر، يطوّر في الوسائط والوسائل التي يشتغل عليها، وينوّع في طرائق وأساليب استخدامه لها، على حساب طروحاتها الفكريّة، ودلالاتها الرمزيّة، وأدوارها الاجتماعيّة، ما مهد لولادة الاتجاهات الفنيّة التشكيليّة الحديثة والمعاصرة التي ولدت بتأثير إشاحة الفنان الأوروبي نظره عن الموروث الفني الإغريقي الروماني، الذي ظل مفتوناً به، ومشدوداً إليه، ردحاً طويلاً من الزمن، وقيامه بمد جسور عقليّة وروحيّة، نحو الحضارات القديمة لشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينيّة، حيث اكتشف أنها تكتنز على قيم فنيّة رفيعة، تضاهي قيم الحضارتين الإغريقيّة والرومانيّة (إن لم تبزهما). تلقف الفنان الأوروبي هذه القيم بسرعة، وبنى عليها اتجاهاته الفكريّة والأدبيّة والفنيّة الحديثة ومنها: التأثيريّة (أو الانطباعيّة)، والتكعيبيّة، والسورياليّة، والدادائيّة، والتعبيريّة، والتجريديّة، والطليعيّة، والمفاهيميّة… وغيرها.
وسائط التعبير
نتيجة مزاحمة لغات بصريّة جديدة ولدت من رحم الكاميرا، للغات التعبيريّة التقليديّة (بما فيها الفنون التشكيليّة) على العديد من أدوارها، اتجه الفنان التشكيلي المعاصر للبحث عن وسائط ووسائل تعبير جديدة، تعوّض ما خسرته أدواته التقليديّة، نتيجة ثورة الاتصالات البصريّة المدهشة، مستفيداً من إنجازات التكنولوجيا، ومن أشياء بسيطة ومهملة، ما كانت تُثير انتباهه في السابق. هذا التوجه قاده إلى حصر اهتمامه بالبنية الشكليّة للغته، على حساب مضامينها ورؤاها ورموزها، الأمر الذي دفعه لإعادة النظر بمفهوم وماهيّة منتجه الإبداعي، ومواده، وخاماته، وتقاناته، وفي الأسس الجوهريّة التي نهض عليها. نتيجةً لذلك، وصل العمل الفني المعاصر إلى مرحلة فقد فيها وجوده المادي الملموس، وتداخلت تقاناته بعضها بالبعض الآخر، بحيث دخل التصوير على النحت والحفر المطبوع، كما دخلت فنون بصريّة وسمعيّة وأدبيّة عليه، كالصور الضوئيّة، والسينما، والموسيقى، والشعر، والخط، والعكس صحيح أيضاً، دخل هو الآخر، بتقاناته كافةً عليها، مدفوعاً بهاجس التجديد الذي تملكه بعد أن سلبه فن التصوير الضوئي وامتداده (سينما، تلفاز، إنترنت) غالبية الأدوار التي كان يؤديها منتجه، قبل اختراع الكاميرا.
تقانات وأساليب ورواد
في هذا السياق، جاءت تقنية (الكولاجCollage ) التي تعني قص مواد وخامات مختلفة وتلصيقها فوق سطح اللوحة المسنديّة، أو المحفورة المطبوعة، أو المنحوتة، بهدف إغنائها تشكيلياً وتعبيرياً، ما أدى إلى انهيار الحدود بين أجناس الفنون التشكيليّة المختلفة، من جهة، وبينها وبين وسائل تعبيريّة: بصريّة، وسمعيّة، وأدبيّة سرديّة، من جهة أخرى. وهكذا بدأ الفنان التشكيلي المعاصر، رحلة استكشاف الأشكال المستنبطة من مواد وخامات عديدة، اعتماداً على قدراته الذاتيّة النظريّة والعمليّة، وعلى ما وضعته التكنولوجيا بين يديه من وسائط حديثة، وقد أدى اشتغاله عليها إلى انعطافات وتحولات جذريّة طاولت المفهوم التقليدي لمنتجه، ناقلةً إياه إلى أفق جديد من البحث والتجريب المفتوح، أفرز أساليب وتقانات وطرائق تعبيريّة جديدة، غيّرت في فلسفة معاييره، وماهيّته، ومضمونه، وأدوات تعبيره. انضوت هذه الإفرازات تحت مسميات عديدة منها: فن الإرساء (الإنستاليشن Installalion) أي فن التجهيز والتشكيل داخل الفراغ، و(السيمولاكر Semulacre) الذي تعامل مع الصورة الضوئيّة وحوّلها إلى نوع من اللعب، والفوتو شوب، والنسخ، والفنون المتعددة، والأوب آرت، وفن التصميم، وفن الجسد، والمينمال…وغيره.
تحوّل جذري
هذا الحراك الفني النشط والحر والمفتوح على احتمالات لا حصر لها، قاد الفنان التشكيلي لأن يفعل ما يشاء في منتجه الفني، بل لقد طالبته بعض الاتجاهات كحركة الطليعة، بإعادة النظر بمفهوم هذا المنتج، مؤكدةً أن الإيديولوجيات والأنظمة قد تحطمت، والفلسفة انتهت وتحولت إلى زندقة وكرب وغم، ما يحتّم بالضرورة، على الفن أن ينهار هو الآخر ويتحوّل إلى تسلية وعبث.
مع كل هذا الشغب والاشتغال الشرس على تحطيم المفهوم الكلاسيكي للمنتج الفني التشكيلي المعاصر، استمر عمل الفنان على الاتجاهات الفنيّة الواقعيّة التقليديّة، واستمر احتفاء الناس بنتاجاتها الواردة إلى صالات العرض ، وقاعات المتاحف، وسوق المضاربات والمزادات الفنيّة، بينما ظلت فنون الحداثة تعيش على الهامش: محصورة في محترفات منتجيها، وبعض البيناليات والتظاهرات الدوريّة، الأمر الذي أوقف حالة الانهيار التي روّجت لها الدادائيّة، وبشّرت بها الطليعيّة وغيرها من التيارات العبثيّة التي كادت أن تأتي بالخراب على إرث البشريّة الفني الحاضن لتراكمات حضارة الإنسان، عبر عصورها المختلفة.
تقنية التلصيق (الكولاج)
(الكولاج Collage) كلمة فرنسيّة مشتقة من Coller وهي تعني اللصق. تحولت مطالع القرن العشرين إلى إحدى تقانات الفن التشكيلي التي اشتغل عليها عدد من الفنانين التشكيليين المعروفين أمثال بيكاسو وبراك، وهي تقنية ليست جديدة، فقد عرفها الصينيون عندما اخترعوا الورق، لكن استخدامها ظل محدوداً حتى القرن العاشر الميلادي، حين بدأ الخطاطون في اليابان باستعمال مجموعة من القصاصات الورقيّة لكتابة الشعر عليها. أما في أوروبا، فقد ظهرت هذه التقنية في القرون الوسطى، عندما بدأت الكاتدرائيات باستخدام أوراق الشجر الذهبيّة، والأحجار الكريمة، وبعض المعادن الثمينة، في تنفيذ الإيقونات (وهي اللوحات المكرسة للموضوعات الدينيّة المسيحيّة). وفي القرن التاسع عشر، استخدم التلصيق (الكولاج) من قبل هواة الأعمال اليدويّة في إنجاز التذكارات، وتزيين ألبومات الصور والكتب، لكن الانطلاقة الأهم لهذه التقنية، كانت مع رائدي المدرسة التكعيبيّة في الفن التشكيلي: بابلو بيكاسو، وجورج براك، ما بين عامي 1907و1914 حيث أدخلا (الكولاج) إلى الفن الحديث، عملاً بمقولة: اكسر القاعدة ولا تجعل قيوداً أمامك.
تلتقي هذه التقنية مع ظاهرة تدوير نفايات البيئة في الفن التشكيلي التي جاءت مع التيارات الفنيّة الحديثة العابثة، لاسيّما مع الدادائيّة وفنون الطليعة وما بعدها. والتدوير هو أن يستخدم الفنان في تنفيذ أعماله الفنيّة، ما يراه مناسباً لها، مما تلفظه البيئة الطبيعيّة، أو الحِرف والصناعات، أو ما يستهلكه الإنسان من ألعاب، وورق مجلات وجرائد، ومناديل، وأغلفة، وكرتون، وبلاستيك، ونسيج، وخزف، وأخشاب، وريش الطيور، وأسلاك، وحصى، وأدوات المطبخ…ألخ.
برر الفنان براك لجوءه لاستخدام تقنية التلصيق (الكولاج) في أعماله بالقول: ما الذي يدعو إلى الكد وبذل الجهد في رسم الأشياء. ولماذا لا نأخذ هذه الأشياء بعينها، ونضعها على اللوحة التي تجسدت فيها الأشياء بأبعادها الثلاثة.
نقطة تحوّل وتطور
اعتبرت تقنية التلصيق (الكولاج) نقطة تحوّل وتطوّر في الفنون التشكيليّة الحديثة، حيث منحت الفنان مساحة واسعة من الحرية لخلق أشياء مبتكرة وجديدة وجميلة ومفيدة، من عملية تدوير النفايات في منتجه الفني، سواء باستخدامها عناصر جديدة ووحيدة في العمل، أو مزاوجتها مع الوسائط التقليديّة (الألوان، الأحجام، الخطوط). غير أن الصيغة المعاصرة لهذه التقنيّة التي أطلقها الثنائي بيكاسو وبراك، لم تكن مستقرة تماماً، بدليل تخليهما عنها العام 1914، وعدم قيامهما بالتوقيع على الأعمال التي أنجزوها بها، أو الإشارة إلى تاريخ إنتاجهما لها، الأمر الذي أربك النقاد والباحثين في عملية تحديد التاريخ الدقيق لولادة هذه الأعمال، ومَن هو السّباق إليها؟!
ما هو مؤكد، أن بيكاسو قام العام 1912 بقطع وطوي قطعة ورق على شكل قيثارة، ثم قام بلصقها فوق سطح إحدى لوحاته، وشدّ عليها أربعة خطوط، إضافة إلى عناصر أخرى مكملة ثبّتها إلى جانبها، للحصول على التكوين الفني المطلوب، بأبعاده الثلاثة، ما جعل اللوحة أقرب للنحت النافر منها للتصوير. والحقيقة لا بيكاسو ولا براك عادا بعد العام 1914 إلى استخدام (الكولاج) في أعمالهما، ما يؤكد أنها كانت مجرد نزوة تقانيّه عابرة، مرت بها تجربتهما الفنيّة المهمة.
تجارب لاحقة
أغرت تجربة بيكاسو وبراك (الكولاجيّة) العديد من الفنانين التشكيليين الذين عاصروهما أو جاءوا بعدهما، على خوض غمار هذه التقنيّة. منهم الفنان )جان كريس ( Juan Gris الذي حاول باستخدامه تقنية التلصيق حل العديد من مشاكل اللوحة المسنديّة، لاسيّما لناحية تضمينها مشاعره وعواطفه، ونقلها للمتلقي، وكان استخدامه لهذه التقنية أكثر وعياً وإتقاناً من استخدام بيكاسو وبراك لها. وهكذا تطورت تقنية (الكولاج) عند الأوربيين حتى صارت تدخل في العمارة الخارجيّة، والعمارة الداخليّة (الديكور)، على اعتبار أن عملية التدوير فيها تطول أشياء حميميّة مأخوذة من الحياة اليوميّة للإنسان. فقطعة القماش التي كانت مستخدمة في اللباس، أو القرص المدمج (C D) الذي كان لوقت قريب، يصدح بالأغاني، وغير ذلك من العناصر التي يستخدمها فنان (الكولاج) في لوحته، ستأخذ مداليل أخرى في موضعها الجديد، تتجاوز الفهم البسيط والمباشر للدور الذي كانت تؤديه في السابق.
أُقيمت معارض تخصصيّة عديدة لأعمال (الكولاج) منها معرض حمل عنوان (القصاصات) شهده المتحف الحديث في (تيت) بلندن، سلطت أعماله الضوء على تقنية التلصيق عند الفنان الفرنسي الكبير هنري ماتيس، أحد أبرز رواد المدرسة الوحشيّة، والتي استخدمها ضمن توليفة خاصة، استلهمها من تجاربه السابقة، وأجاب فيها على أسئلة تتعلق بالألوان والخطوط والأحجام. لجأ ماتيس إلى استخدام هذه التقنيّة، إثر إجرائه عملية جراحيّة منعته من الوقوف أمام حاملة اللوحات، وأجبرته على تنفيذ أعماله وهو فوق كرسي متحرك، بوساطة القص واللصق، ومساعدة آخرين. كما قام بتدريب الأطفال على هذا النوع من الفن الذي تحوّل إلى مدرسة فنيّة قائمة بذاتها.
من الفنانين الذين اشتهروا باستخدام تقنية التلصيق، الفنان البريطاني (بيتر بليك Peter Blake) الذي استخدم المطرزات والكتب والملابس، وحتى التلفاز والموسيقى في أعماله، خلال منتصف خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وقام بتصميم أغلفة أسطوانات فرقة الخنافس (البيتلز). توزعت أعماله على التشكيل المسطح، والتشكيل المجسم. والفنانة الإنكليزيّة (مارغريت ميليز Margaret Msllis) التي جمعت في أعمالها بين تقنية ألوان الزيت والورق المقوى، ضمن صيغة مجردة. والفنان الألماني (كورت شويترز Kurt schwitters) الذي يُعتبر من أهم فناني (الكولاج) في القرن العشرين، وكانت له علاقة بالعديد من فناني التعبيريّة الألمانيّة. ولأنه لم يُقبل ضمن مجموعة الدادا التي كانت سائدة آنذاك، أطلق على نفسه، وعلى إنتاجه الفني اسم (ميرس Merz) المأخوذة من كلمة Kommerz التي تعني أوراق مقطعة من الجرائد. ما يميز هذا الفنان، إقدامه على استخدام أي شيء تقع عليه يده، في إنجاز أعماله الفنيّة، بما في ذلك الجوارب المسروقة، وأقلام الرصاص المكسورة. وهذا ما فعلته الفنانة (نيتا ليلاند (Nita Lelandالتي نوّعت في استخدامها (الكولاج) وجمعت بين الألوان المائية وأوراق الأرز ذات التأثيرات الأعمق من تأثيرات أوراق الجرائد والمجلات.