قد لا نذيع سراً ولا نبالغ إذا قلنا بأن أعداء سورية وأدواتهم أو ما يصطلح عليهم بمحور العدوان على سورية يعيشون مأزقاً كبيراً، بسبب تخبط الإدارة الأميركية في سياساتها وتضارب أجندات حلفائها على خلفية قرار ترامب المتعلق بسحب القوات من شرق الفرات ومنطقة التنف، وهو ما انعكس على أرض الواقع اقتتالا شرسا بين الجماعات الارهابية المتبقية في ريف حلب الغربي ومحافظة إدلب، كما تجلى في خلافات مزعومة بين أنقرة وواشنطن فضحتها زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون الأخيرة لتركيا بعد زيارة لطمأنة الكيان الصهيوني.
كما لا نذيع سراً ولا نبالغ إذا قلنا بأن كل ما جرى من تخبط وصراعات ضمن هذا المحور المعادي كان نتيجة طبيعية لتمكن سورية وحلفائها من دحر المشروع الإرهابي الذي يستهدفها عن معظم أراضيها، وتقدمها بشكل واضح وملموس على سكة التعافي واستعادة الأمن والاستقرار، بعد ما يقرب من ثمان سنوات من الحرب الطاحنة والحصار والضغوط السياسية والاقتصادية التي فشلت في قهر إرادة السوريين ولي ذراعهم، وهو ما تُرجم مؤخراً بانفتاح العديد من الدول العربية والأجنبية تجاه سورية وتغيير نهجها والتخلي عن رهاناتها استعداداً لفتح صفحة جديدة من العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية.
زيارة بولتون إلى كل من تل أبيب وأنقرة كشفت عن حجم المأزق الأميركي واتساعه، وخاصة بعد أن أعلن بولتون عن تعديلات جديدة على قرار ترامب تسمح ببقاء جزء من القوات الأميركية في منطقة التنف السورية ضمانا للمصالح الإسرائيلية حيث يضخّم نتنياهو هواجس كيانه الأمنية إزاء كل من إيران وحزب الله ووجودهما في سورية، وهو ما يؤكد مرة جديدة بأن الوجود الأميركي في سورية لا دخل له بمكافحة الارهاب وإنما وظيفته الأساسية الحفاظ على أمن إسرائيل، في حين بلغ المأزق الأميركي أوجه في أنقرة حين حاول بولتون وضع شروط جديدة أمام تركيا بخصوص نية الانسحاب من شرق الفرات عبر الإعلان عن رغبة أميركية بالاحتفاظ بالسيادة الجوية فوق هذه المنطقة، وعبر الطلب من تركيا حماية المليشيات الكردية، وهو ما وضع كل طموحات أردوغان باجتياح منطقة شرق الفرات للتخلص من خصومه الأكراد أمام تحدّ جديد، إذ لا يمكن التوفيق بين ما يرغب به الطرفان ويسعيان إليه.
لا شك بأن التخبط والتردد الأميركي حيال الانسحاب من سورية ومحاولة وضع شروط وعقبات جديدة أمام البدء به واستكماله وفق الجدول الزمني المبهم ، يعود إلى خلافات حادة داخل مؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة، وهي خلافات معلنة طفت على السطح وأدت إلى انتقادات عنيفة لترامب واستقالات عديدة في إدارته ، كما يعود بالأساس لتدخلات اللوبي الصهيوني المنحاز لإسرائيل في القرار الأميركي، وخاصة بعد أن أجمع الكثيرون على اعتبار الانسحاب الأميركي من سورية دون ضمانات أمنية لإسرائيل نكسة كبيرة لها ولطموحاتها العدوانية، ونصر كبير لسورية ولحلفائها وخاصة إيران وحزب الله، وكان مسؤولون وإعلاميون صهاينة أكدوا أن تل أبيب هي أكبر الخاسرين من قرار ترامب، وأن ما جرى لا يمكن وصفه إلا انتصار للرئيس بشار الأسد الذي اعتبر الوجود الأميركي في سورية وجود احتلالي ستتم مقاومته بكل السبل والوسائل السياسية والعسكرية إذا لزم الأمر.
هذه الخلافات المستجدة بين أنقرة وواشنطن، والتي تقف خلفها على الأرجح جهات صهيونية، من شأنها أن تنعكس سلباً على مستقبل التعاون بينهما بخصوص سورية والعديد من ملفات المنطقة، وأن تدفع بالنظام التركي أكثر باتجاه التنسيق والتعاون مع حلفاء سورية أي إيران وروسيا، لأنه لا يمكن لأحد أن يجيب على «الهواجس» التركية إزاء المسألة الكردية سوى سورية الموحدة كاملة السيادة على أراضيها وخاصة شرقي الفرات، وأي رهان آخر لن يجلب لتركيا سوى المزيد من الخسائر والنكسات.
النظام التركي اليوم أمام اختبار صعب، وعليه أن يعرف قبل فوات الأوان أين تكمن مصالحه، فالأميركيون الضالعون ـ حسب اتهامات أردوغان ـ بمحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 هم أنفسهم الذين يمنحون عدوه فتح الله غولن اللجوء السياسي ويرفضون تسليمه، وهم الذين يدعمون خصومه الأكراد ويكبرون في عقولهم حلم الانفصال وإنشاء الكيان الكردي، وهم أنفسهم الذين يفرضون عقوبات اقتصادية على تركيا، وهم الذين زجوا بتركيا في أتون الحرب على سورية وتخلوا عنها، فهل يمكن الوثوق بهم بعد ذلك، أم أن ما جرى خلال زيارة بولتون سيكون بمثابة الضربة القاضية للعلاقات بين الطرفين.
دمشق الواثقة من انتصارها على الارهاب وداعميه ومن خياراتها السياسية تراقب بهدوء ما يجري، وعندها إجابة لكل سؤال وما على المخطئين تجاهها سوى طرق أبوابها، فأميركا لم تجلب إلى المنطقة سوى الفوضى والموت والدمار والإرهاب وستخرج منها عاجلاً أم آجلا، سواء قرر ترامب الانسحاب الآن بأقل الأضرار أم تباطأ وتلكأ وماطل وعرّض بلاده وقواته للمزيد من الخسائر والهزائم، لأن الحرب اقتربت من نهاياتها ولا أمل للمهزوم بإعادة عقارب الساعة للوراء.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الخميس 10-1-2019
رقم العدد : 16881
التالي