أشعر بما يشبه الاستفزاز عند قراءة بعض المصطلحات الإحصائية، ولا سيما تلك التي تختص بتعداد السكان وتصنيفهم، حيث يجري التصنيف على قاعدتين أساسيتين، قاعدة سكان المدن، وقاعدة سكان الأرياف، وهذا اتجاه صحيح من حيث المبدأ، ولكن المشكلة تأتي من التعبير عن سكان المدن بمصطلح (الحضر) فأشعر وكأنّ المكتب المركزي للإحصاء العزيز علينا طبعاً، يُصنّفنا – نحن أبناء الأرياف – في خانة الجهل والتخلّف، وعلى الرغم من أنّ معجم المعاني يُفسّر مصطلح (سكان الحضر) على أنهم هم سكان المدن والأرياف، فإن عزيزنا المكتب المركزي للإحصاء يُصرّ على احتكار معنى هذا المصطلح لسكّان المدن فقط، ونعتقد أنّ هذا فيه شيء من الجّور القابل للتغيير، ولا سيما أن أريافنا قد تغيّرت كثيراً بالفعل، ودخلت الحضارة من أبوابها العريضة، ففي قريتنا الصغيرة – مثلاً – هناك عشرة صحفيين بإمكاننا أن نُشكّل فريق عمل ونُصدر صحيفة كاملة، فيها أيضاً أكثر من ثلاثين مهندساً من مختلف الاختصاصات، المدني والمعماري والميكانيكي والزراعي، وأكثر من أربعين طبيباً، اختصاصياً وعاماً وجرّاحاً، فيها تجّار وصناعيون ومستثمرون وأصحاب مهنٍ صناعية وزراعية وسياحية وخدمية، ومخابز ومطاعم ومحطات وقود، فيها أكثر من مئة معلم ومدرس وأساتذة في الجامعات، ومحامون وصيادلة، ومحاسبون وكتّاب وشعراء، وفنانون ونقابيون وعمال وفلاحون، وموظفون ومسؤولون كبار، فيها الكثير من العسكريين والضباط، والأكثر الأكثر من الجرحى والشهداء اليوم.
في الواقع إن المقدّرات البشرية ذات الاختصاصات المتنوعة التي غدت قرانا تعيشها فعلياً بشكلٍ عام، فليست قريتنا وحدها هكذا، صار من الضروري – على ما نعتقد – الالتفات إليها، ومحاولة استثمارها بالشكل الأفضل، وإلى أقصى حدّ ممكن.
صحيح أنّ البعض من هذه الاختصاصات المتنوعة لا تجد لها مكاناً في القرى بحكم طبيعة العمل، ولكن يمكن الاستعانة بها ولو جزئياً، كما أنّ بعضها الآخر لم يغادر، وبقي مستوطناً يمارس نشاطه، غير أنّ أغلب هذه الأنشطة شبه عبثيّة، لا رابط يربطها، ولا جهة تشرف عليها وترعاها كحاضنة أعمال، وترشدها إلى سبل العمل الصحيح، ما يفوّت الكثير من الفرص الغنية الممكنة.
هذا الأمر ليس سهلاً بالتأكيد، ولكنه ليس معجزة، وربما يكون ممكناً عبر تشريعٍ يتيح إقامة قرى نموذجية، تستثمر كل ما يمكن استثماره من إمكانات بشرية، ومقدّرات زراعية وسياحية، وما إلى ذلك بطريقة معينة، وبامتيازات مغرية تشجّع الجهة التي ستقيمها على المبادرة، سواء كانت جهة حكومية أم أهلية.
بلادنا غنيّة بقدراتها وإمكاناتها التي لا تزال نائمة، والتي إن استيقظت سنكتشف بأننا نغفو على ذهب، ولكنها تحتاج لمن يوقظها، ولعل المكتب المركزي للإحصاء بعدها يزداد شعوراً بضرورة تغيير التصنيف أيضاً.
علي محمود جديد
التاريخ: الأثنين 21-1-2019
رقم العدد : 16890