لم يبقَ إلاّ القليل من النشطاء على السوشيال ميديا – على ما أعتقد – إلاّ وجرّب حظّه بما تفتّقت به قريحته من كيل الاتهامات وعبارات الذم والقدح والتشهير بأولئك التجّار الذين اصطُلح على تسميتهم بالحيتان، وصار الكثيرون يحفظون ذلك عن ظهر قلب ويكتبون – على الغائب – ما يحلو لهم عن شناعة تصرّفات الحيتان وكيف يفعلون بالناس ويستغلون الأزمات فينهبون الثروات ويشفطون الأموال من جيوب الفقراء بل ومن خزينة الدولة أيضاً لأن البنك المركزي هو الذي يموّل لهم مستورداتهم بالقطع الأجنبي ويبيعه لهم بأسعار أقل من سعر السوق السوداء، والفارق كبير بين السعرين لصالح الحيتان، ما يعني أن هذا يجب أن ينعكس على أسعار السلع التي يستوردونها وأن يبيعوا المواطنين بأسعار معقولة حتى يتمكنوا من العيش، ولكن النشطاء يرون دائماً أن الأسعار ترتفع وترتفع .. ومن ثم ترتفع، وعند السؤال عن السبب لا نسمع ردّاً إلاّ أن الأمر يتعلق بالقطع الأجنبي الصاعد، وبالتالي ارتفاع الأسعار، فيشتاطُ الناشطون غضباً لأنّ أمر الحيتان مكشوف عندهم، إذ لا علاقة لسعر الصرف بارتفاع الأسعار لأن الحيتان حصلت على القطع الأجنبي من البنك المركزي وليس من السوق السوداء .. أي بسعر ثابت وأقل من السعر الحقيقي ما يعني أنهم استوردوا السلع بتكاليف أقل .. إنهم كالمنشار يأكلون صعوداً وهبوطاً .. فهمّهم أن يملؤوا جيوبهم على حساب لقمة المواطنين .. وكلام صاعد هابط عليهم من هذا القبيل له أول وليس له آخر.
ولكن الشيء الذي يمكن لأي واحد منّا أن يلاحظه هو أن كلّ الكلام والاتهامات الموجهة ضد الحيتان ما هي إلا مجرد استنتاجات وآراء .. وجملة تخمينات تفتقر للأدلة والقرائن، حتى أن أغلب الناشطين يعتقدون أن الأمر لا يحتاج إلى أدلة ولا قرائن أو وثائق لأن الأمور واضحة ( يعني مبينة ) ولا داعي لجهود الإثبات.
ولكن أبداً ليست ( مبينة ) وتحتاج للكثير من القرائن وأدلّة الاثبات، والاتهام بهذا الشكل جزافاً لا قيمة له مهما بلغ الصراخ، بل على العكس فإن الصراخ العشوائي بهذا الشكل يساهم إلى حدّ بعيد بالكثير من التشويش والاختلاطات، ويضيع الحابل بالنابل، فالأفضل دائماً هو الدقة في الكلام وعدم إطلاقه إلاّ موثّقاً مُثبتاً بالأدلة، سواء كان هذا التوثيق يطال الحيتان أم الأسماك كلّها، وعندها فقط يمكن أن تُتّخذ الإجراءات العادلة.
الوضع معنا – نحن الأسماك والأصبعيات – صعبٌ بكل تأكيد، ولكن لو تجاوزنا عقدة المقارنة بيننا وبين الحيتان وتطلعنا إلى جهودهم الكبيرة والصعبة في تأمين احتياجات البلاد، حيث يخاطرون ويجازفون في خضمّ هذه البحار والمحيطات الهائجة ليأتوا لنا بمتطلبات أساسية في حياتنا، متحملين المصاعب والتكاليف الباهظة للنقل وللتأمين ومن ثم للتفريغ وتسديد الضرائب والرسوم، عوضاً عن المصروفات الجانبية هنا وهناك للإفراج عن البضاعة، ومن ثم تكاليف النقل إلى المستودعات وتكاليف التوزيع، وأحياناً – قبل ذلك – تكاليف التعبئة والتغليف .. وربما التصنيع أيضاً.
فالمهم أن على التاجر أن يحسب وبدقة مجمل التكاليف – كما هو معروف – ومن ثم يُسعّر المادة على أساسها مع هامش ربح موضوعي، ولا ذنب له إن كانت تلك التكاليف باهظة فهو عليه أن يربح وإلاّ يكون بالأساس مغفّلاً، ونحن ليس لنا أن تستفزّنا جيوبه المنتفخة من أرباحه العادلة، لأن هذا ما يجعله قادراً على المتابعة في تأمين احتياجاتنا، فإن راعانا كثيراً وفرغت تلك الجيوب سيصيرُ مثلنا – بعد حين – عاجزاً عن القيام بأعماله، وعندها علينا أن نتخيّل حجم المآسي في البحث عمّا نحتاجه، وبفقدانه أيضاً.
على الملأ- علي محمود جديد