اختار الفن طريقا ومنهجا منذ نعومة أظفاره وهو ابن البيئة الفراتية الغنية التي لم تبخل عليه يوما بعطائها فكانت المنهل الذي لا ينضب وكان الفنان أنور الرحبي الابن البار لمدينته العابقة بأريج الحضارات الخالدة.
رسم خطواته بثقة في عالم الفن التشكيلي وبنى لنفسه عالما متفردا وسط الضجيج اللوني المترامي الأطراف، وبنى مدينته اللونية المتشحة بألوان الفرح وألوان الحب والسلام، في حين هجر اللون الأسود إلى مدينته التي تعبق بطهر قلبه وصفاء روحه ليمتد عطاؤه 43 عاما كانت حصيلته 36 معرضا والعديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية.
الفنان أنور الرحبي واحد من الفنانين العمالقة الذين ساهموا في بناء ذاكرة الوطن واستحق أن يكون عملاق الندوة التكريمية في «ثقافي كفرسوسة» بمشاركة الناقد سعد القاسم، د.علي القيم، والناقد التشكيلي أديب مخزوم، وأدارت الحوار الإعلامية إلهام سلطان التي أكدت أننا نحن من يكرم بوجود تلك القامات الكبيرة على اعتبار أن حياة الإنسان هي عبارة عن محطات وأجملها وأكثرها بهاء هي التي تكون في حضرة الإبداع وأحد رموز الثقافة التي تؤكد عمق الحضارة السورية، مشيرة إلى أن هذه القامات خالدة لاتموت.
وبدأت الندوة بعرض فيلم يجسد محطات هامة في حياة الفنان الرحبي وشهادات تحكي عالمه المتميز الذي بناه على مدى مسيرته الطويلة في عالم اللون والتشكيل وذاك الحبل السري الذي لم ينقطع عن بيئته الفراتية الأولى وقد شهدت أولى خطواته نحو النجومية عندما نال جائزة «شنكار» الهندية التي كانت تمنح للأطفال.
ويرى الرحبي في تكريمه لفتة طيبة من الوطن لمبدعيه وهذا يؤكد أن بلدنا بلد المحبة والصدق مازال بخير، وأضاف: أنا مازلت أتعلم وعندما أكون بجلالة الأحمر أو الأخضر أقف مرتبكا ومازلت أعشق الألوان مثل الأطفال وأداعبها بحب وشغف.
المتمرد عن المألوف
الرحبي فنان استطاع أن يبني لنفسه عالما من التشكيل وأن يكون واحدا من القامات الفنية الكبيرة وبتكريمه نكرم جميعا، ويضيف د.علي القيم هو فنان نعتز ونفتخر به لصدقه وحيويته في تعاطيه مع التحولات والتداعيات التي عشناها ونعيشها على الساحة الفنية السورية وقد خبرته كفنان تشكيلي مبدع وإداري مجتهد محبوب من الجميع، ويضاف إلى ذلك أنه فنان دائم البحث عن مكنونات الجمال، فقد شكل عالمه الخاص، وكان بحق ذلك الفنان الجميل في الحركة الفنية السورية والعربية، تجمع لوحاته بين العفوية والرصانة والتمرد على المألوف، وتلامس الأفكار والأحداث فنعيش معها حالة من الدهشة والأمل والإشراق.
ويبين القيم أن علاقة الرحبي مازالت وثيقة بين الذاكرة وحالة الوجد والعشق التي تعتريه والمقام عنده تجسيد للحالة الزمانية والمكانية، وقد قضى حياته بالرسم متفاعلا مع اللوحة كعاشق، وكان دائم التألق، يدقق بالتفاصيل لتشكيل اللوحة وفق سيمفونية اللون والعمل، بوصلته المرأة والجزيرة السورية بكل ما فيها من حضارة وألق وتراث.
التعبيري.. الواقعي
إن أهم ما يميز تجربة الرحبي كما يراها الناقد سعد القاسم أنها بدأت مبكرة ومبشرة منذ البداية، وهو تأكيد بأن كلية الفنون الجميلة ليست المدخل الوحيد للإبداع، فقد كان هناك عدد من المبدعين من خارجها وقد اجتهدوا فأبدعوا وظهر ذلك جليا عبر تجاربهم الذاتية وتفوقوا على الكثير ممن درسوا في الكلية.
ويضيف القاسم: الفنان الرحبي بدأ عمله بالرسوم الصحفية «الموتيفات» التي ترافق المواضيع الصحفية، ويعد هذا الفن من أصعب الفنون على الرغم من بساطته الظاهرية، لأنه يتطلب اختزالا للفكرة، ومن ثم تطور عمله ليصل إلى اللوحة التشكيلية المتوازنة والثرية بألوانها وعناصرها، وهو الخبير باستثمار المساحة والفراغ ومساحة اللون والخط، لذلك لم تكن لوحته يوما لوحة الصدفة، بل هي لوحة عقلانية مقسمة إلى مجموعات ومستطيلات كل جزء فيها يعمل بمعزل عن الآخر ويتكامل معه.
والرحبي يتميز بقدرته على صنع الانسجام اللوني المترافق مع إمكانية الانتقال من عالم لوني إلى آخر، ولا يخفى تأثير البادية عليه وهو كامن في أعماق روحه الإبداعية، ويشعر المتلقي بتلك الجذور الفراتية ويراها ضمن رؤية إبداعية مجددة..
ويؤكد القاسم أنه على الرغم من أن الرحبي فنان تعبيري إلا أنه ميال للواقعية، وكان يحرص على أن ينصف العمل الفني حسب قيمته الفنية وليس من خلال موضوعه.
فنان التكوينات الصعبة
وبين الإعلامي والناقد التشكيلي أديب مخزوم أن الأداء التشكيلي الذي يجسده الفنان التشكيلي أنور الرحبي في حالات التكوين والتلوين يبعدنا مسافات عن الإشارات الواقعية المباشرة ويدخلنا في إطار الحالة الرمزية والتعبيرية، كل ذلك بصياغة أسلوبية خاصة ومتنوعة في تقنياتها وتوجهاتها الجمالية، والرحبي يركز في لوحاته على إظهار تقنية الخطوط بطريقة مغايرة، ويعمل على التشكيل الذي يستمد من اللون جمالية المساحات المتداخلة مع الخطوط والزخارف النباتية.
والفنان الرحبي يستفيد من قدراته الخطية «ليونة خطوطه وحيوية حركتها وقوتها» وربما تتحول الحركات الإنسانية لديه إلى حالات لحظية وسكونية وهذا له علاقة بالجانب الروحاني أو بالرمز الصوفي المثبت في أقسام متفرقة من اللوحة.
وعرف عن الرحبي أنه فنان التكوينات الصعبة التي يمكن أن تشكل منطلقا لتكوينات وتشكيلات أكثر تبسيطا واختصارا، ليظهر تعبيرات أقوى للجسد الأنثوي بحركاته المختلفة، هذا ويساهم في تحويل الصورة إلى رموز تشكيلية حديثة تتكرر من لوحة إلى أخرى في خطوات البحث عن حلول تشكيلية وطروحات ثقافية معاصرة متزايدة الجرأة والعفوية.
هذا ويمكن التماس عوالم الأحلام والرؤى الخيالية وإسقاطات دلالات القصة أو الحكاية، فالرموز والدلالات القصصية المحلية والشرقية تطل في العناصر والأشكال وتتنوع وتتداخل مع المساحات اللونية في خطوات البحث عن إيقاعات تشكيلية جديدة.
ويرى مخزوم أن البحث عن فضاء تعبيري إنساني فتح لوحة الرحبي على احتمالات تعبيرية تصل في أحيان كثيرة إلى حدود التعبير الانفعالي، كما أن طريقته في وضع اللون تمنح السطح التصويري مناخات لونية تتوافق مع ثقافة فنون العصر.
أخيراً
الفنان أنور الرحبي من مواليد دير الزور للعام 1957 شارك بالعديد من المعارض المحلية والعربية، عضو لجنة تحكيم في العديد من الملتقيات والمسابقات العربية والدولية وحاز على دكتوراه فخرية من مركز الابداع دبي، كما نال جوائز عديدة منها: جائزة تجمع فناني شرق البحر الأبيض المتوسط، وفارنا، وبينالي مسقط الدولي، وجائزة محافظة الحمامات تونس 1987 والجائزة الأولى لتصميم الغلاف السوري.
فاتن أحمد دعبول
التاريخ: الاثنين 4-2-2019
الرقم: 16901