لكل أمة حضارة تتميز بها وتنفرد بخصوصيتها عن بقية الأمم وتراثنا الشعبي بموروثه المعماري له مزايا فريدة في طرازه وتشكيله الفني ,وللإنسان السوري حكاية أخرى مع المكان الذي يحيا أو يعمل به وقد امتزج بروحه وذاكرته وكيانه ونكاد لا ندري هل أثّر البناء المعماري في الفرد أم إن الفرد أثر في البناء .
أطروحات كثيرة وعناوين متنوعة قدمها مركز البارودي للتراث والترميم خلال جلسات التحكيم لمشاريع تخرج طلاب الماجستير والتي تناولت بالدراسة والبحث أماكن أثرية لإعادة ترميمها وتأهيلها.
الدكتور سلمان محمود عميد كلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق تحكيم مشاريع تخرج ماجستير تأهيل وتخصص المباني التاريخية والأثرية أشار لما قدمه الطلاب من مشاريع متنوعة بدءا من ساروجة وصولا لكنيسة حلب واللاذقية وجبلة وتعرض هذه المشاريع على اللجنة المتخصصة للمناقشة.
وتنطلق أهمية هذه المشاريع حسب رأيه كونها تلامس الواقع الفعلي للموقع الأثري , فالطالب يدرسه على ضوء وضعه الراهن فيضع له التصورات المناسبة مستقبليا لإعادة ترميمه ووضعه يحافظ على التراث وتوثيقه , الذي سعى إليه الإرهابيون ودمروا الكثير من المواقع التاريخية وكان الهدف هو تدمير تاريخنا وحضارتنا ولكنهم فشلوا في غايتهم ومسعاهم. فنحن عاقدو العزم على إعادة تأهيل وترميم المواقع الأثرية والمحافظة عليها بالتشارك مع جميع الجهات الحكومية المعنية .
لكل حضارة أسلوبها في الترميم
محمد خير البارودي أحد أساتذة مركز فخري البارودي للتراث قال : تمت مناقشة ماجستيرات نوعية ومتخصصة جدا» تضاهي معهد شايو الفرنسي العالمي للتراث والترميم والذي كنا على توءمة معه سابقا» فقد أوجدنا لأنفسنا وبجهودنا الخاصة وبقدراتنا وإمكانياتنا المحلية أسلوبنا الخاص بنا , وأصبحنا نعمل وبشهادتهم بمستوى عال وأفضل من الشايو الذي عندهم .
الشيء الهام, أن لكل أمة وحضارة أسلوبها وطريقتها في ترميم آثارها ولابد من العناية بها والمحافظة على خصوصية هذه الحضارة . وهناك عشرات الأساليب , ولم نكن سابقا» نملك هذا الأسلوب , أما الآن وبجهود وخبرات سورية بحتة وبإشراف مركز البارودي بتنا نملك أفضل وأحدث الأساليب المتبعة والمعروفة دوليا.وهذا يعود لأسباب أهمها أن من يدرس آثارنا هم أساتذة وأكاديميون سوريون بعلم محلي ( لو أن الأساتذة غير محليين لكان العلم والأسلوب مستوردين). فكل الخبرات وطرق التدريس والأبحاث المقدمة سورية بحتة, ولا نعمل على غيرها.وهذا أدى إلى رفع مستوى الأداء العلمي في المركز.
تناولت المشاريع المقدمة لنيل شهادة الماجستير دراسات توثيقية حول 22 موقعا ومبنى أثريا في دمشق وعدد من المحافظات ، وقدمت خططا ومقترحات لإعادة تأهيلها وترميمها من أجل المحافظة عليها والاستفادة منها في كافة المجالات. أُتبعت فيها منهجية البحث العلمي , بأسلوب الطرح للمادة البحثية ودقة المعلومة عبر زيارة الموقع ومعاينته بشكل شخصي على أرض الواقع والاطلاع على كل تفاصيله التاريخية والوضع الراهن وقسمت الأطروحات لشريحتين الأولى كانت إعادة دراسة الأبنية الموجودة في الشرائح التاريخية وإعادة صياغتها لتكوين شريحة تاريخية متكاملة والشريحة الثانية وهي شريحة تخطيطية وهي إعادة قراءة تراثنا ومدننا التاريخية بالصياغة التخطيطية لإعادة إحيائها بالاستثمار تجاريا أو ثقافيا أو سياحيا أو علميا.
أقدم محراب موجود في حلب
– تناولت المهندسة هنادي المحمود في بحثها كاتدرائية حلب العظمى وقالت عن الكنيسة أنها مشروع متكامل تاريخيا,فالكنيسة تروي مراحل الحضارة السورية في حلب منذ تأسيسها كمعبد وثني بناه البيزنطيون مرورا بتحويلها لمسجد ثم عودتها لما بنت لأجله ,وما يميزها وجود الأعمدة الكورنسية البيزنطية وأقدم محراب خشبي بالعالم العربي وهو المكان الوحيد الذي صلى فيه المسلمون بعد تحويله إلى جامع رغم وجود الصلبان والأيقونات ذات الرموز المسيحية وهذا يدل على التآخي بين المسلمين والمسيحيين منذ القدم , وهو أقدم أثر مُزار في حلب حتى الآن فقد تجاوز عمره 1700, ويعاني حاليا» من مشاكل وإهمال ونحن قدمنا حوله إضبارة تنفيذية أكاديمية بخطة دقيقة تستطيع أي جهة رسمية إعادة تأهيل المكان وتنفيذه على أرض الواقع .
– وعلى الجانب الآخر قدم المهندس غدير نزار عيسى مشروعه عن ترميم التربة البلبانية بسوق ساروجة ,فقال : هي عبارة عن ضريح سُمي (التربة) بالعهد المملوكي ,والآن هي تربة ومصلى وجزء منها مستودع وقسم آخر منزل ونعمل حاليا» على إعادة تأهيلها وتوثيقها بخطة عمل دقيقة جدا» متّبعة في كافة المشاريع ضمن منهجية علمية هندسية فنية إنشائية وتتدرج من دراسة المبنى وتوثيقه ودراسة تاريخه والمشاكل التي يعانيها ثم نحل هذه المشاكل وفق أحدث الطرق التي تراعي الخصائص المعمارية للصرح والذي يعد واجهة العمارة الدمشقية المملوكية , وهو جزء من تاريخنا وذاكرتنا ويؤكد هويتنا الحضارية السورية.
– بينما قدم المهندس عماد الدين الشعبي أطروحته حول طاحونة القدّة في كفرسوسة والنشاط الإنساني والاجتماعي والاقتصادي المرافق لعمل الطواحين وهي التراث اللامادي للشعب السوري والذي تراكم عبر السنين كما ونوعا, والتي كانت جزءا هاما من الحياة السورية, فكل المشاريع والأموال تتجه الآن نحو الاستثمار العقاري وهو يؤثر بشكل سلبي على النسيج الاجتماعي المعماري والسكاني للبلد ,فالطاحونة رافقت النشاط الزراعي لسيرة القمح والخبز هو القوت الرئيسي للسكان ,ويمر بعدة طقوس يشارك بها شريحة كبيرة من الناس , والتنظيمات المعمارية الحديثة قضت على جزء كبير من المطاحن والمعاصر ومشروعنا يعمل على المحافظة على الذاكرة الشعبية للمكان , وتعزز فكرة أن الإنسان دون ماض فهو دون مستقبل
لعل ميزة مركز البارودي للتراث بحكم مكانه التاريخي والأثري والحضاري , أنه لم يعد مجرد جامعة للتدريس والدراسة بل بات وبجميع عناصره أسرة واحدة (من مدرسين وطلاب وباحثين وإداريين) ,فقد شكل المكان طبيعة العلاقة بين الطلبة والمحاضرين بروحه الدمشقية العريقة وبجوانبه الناطقة بعبق الماضي وتفاصيله التراثية الحميمة ,وفرض نهج الأسرية في الحديث وهي تعني بأبسط أشكالها اهتمام كبير من الطلاب والمدرسين والذي انعكس إيجابا» بطبيعته على سوية العطاء والخبرة العلمية والمعرفية المتبادلة بين الأطراف.
مركز بحثي عالمي
ومن الجدير بالذكر أن مركز البارودي للتراث والترميم التابع لكلية الهندسة المعمارية بجامعة دمشق ويتم فيه تدريس ماجستيرات عليا لمرحلة التأهيل المهني الخاصة بالآثار والترميم ومدة الدراسة سنتان تتضمن دراسات نظرية ومشاريع عملية يشترط في المتقدم أن يكون حاصلا على درجة الإجازة في الهندسة من إحدى الجامعات الحكومية السورية أو على درجة معادلة لها من كلية أو معهد عال معترف بهما من مجلس الجامعة وفق القواعد التي يضعها مجلس التعليم العالي.
ونتيجة الجهود المبذولة أصبح المركز علامة علمية حيوية للبحث والتأهيل والترميم تصلح أن تكون منهج بحث علمي للمستقبل السوري التراثي.
ثناء أبوذقن
التاريخ: الخميس 7-3-2019
الرقم: 16926