كان متوقعاً في ظل المغالطات الأميركية والفبركات التي ساقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتبرير خروج بلاده من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة وقصيرة المدى الموقعة عام 1987 مع الاتحاد السوفيتي أن يأتي رد الكرملين بالمثل وعلى قاعدة العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم، ولا سيما أن التحرشات الأميركية بالأمن القومي الروسي من الخاصرة الأوروبية مستمرة واتخذت أشكالا مختلفة من الضغوط والعقوبات والتهديدات ليس أقلها افتعال أزمة اوكرانيا ونشر منظومات صاروخية مضادة للصواريخ في شرق أوروبا، إضافة إلى سلسلة من العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية قامت واشنطن بفرضها على موسكو تحت عناوين وذرائع مختلفة.
ففي خطوة تؤشر إلى عودة أجواء القطيعة والتوتر وتذكر بالحرب الباردة بين القطبين العالميين الكبيرين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وريثة الاتحاد السوفيتي، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوما قضى بتعليق تنفيذ معاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى وتم تكليف وزارة الخارجية الروسية بإرسال مذكرة للجانب الأميركي بهذا الشأن وذلك في أول رد فعل عملي على تنصل واشنطن من التزاماتها بالمعاهدة التي يعود توقيعها إلى كانون أول عام 1987 بين الرئيسين السوفيتي ميخائيل غورباتشيف والأميركي دونالد ريغان.
لا شك أن هذا الحدث الخطير أي «تعليق العمل بهذه المعاهدة من الطرفين» ستكون له تداعيات على الأمن والاستقرار العالميين، لأنه سيفتح المجال أمام سباق تسلح جديد بين الطرفين مع إمكانية أن تنضم دول أخرى لهذا السباق بدواعي التهديدات المتوقعة على أمنها القومي، وثمة من يرى أن أوروبا هي أول من سيحصد ثمار فشل هذه المعاهدة باعتبارها الحاجز الجغرافي بين القطبين الكبيرين، مع خاصية وجود العديد من دول أوروبا ضمن حلف الناتو الذي تقوده وتسيره وتهيمن على قراراته وتوجهاته العدوانية واشنطن.
ويعزو البعض قيام ترامب بتمزيق معاهدة الصواريخ إلى وجود ضغوط داخلية عليه من قبل صقور الجمهوريين غير الراضين عنها وعلى رأسهم جون بولتون، مستشار ترامب للأمن القومي الذي زار روسيا الشهر الماضي وناقش مع المسؤولين الروس إمكانية التفاوض حول المعاهدة بإضافة أطراف دولية جديدة على رأسها الصين، في حين يخشى مسؤولون أميركيون من أن تتمكن روسيا العائدة بقوة من استعادة دورها وموقعها على الساحة الدولية كقطب عالمي جديد مواز للولايات المتحدة، وهذا يعني العودة إلى عالم متعدد الأقطاب لا يناسب أطماع وطموحات الإمبراطورية الأميركية، ويضاف إلى هذين السببين أن روسيا استطاعت من خلال مساندة سورية في الحرب على الإرهاب إفشال مخططات واشنطن لرسم خرائط المنطقة وفق أطماعها، وأيضا العلاقات الجيدة بين روسيا وإيران التي تشكل تحديا كبيرا لواشنطن وحلفائها وأدواتها على مستوى المنطقة، كما تشكل الأزمة الأوكرانية وما نجم عنها من عودة شبه جزيرة القرم للسيادة الروسية، سبباً إضافياً للتذمر الأميركي من السياسة الروسية.
تقول بعض التقارير إن نحو 60 ألفاً من الصواريخ النووية المتعددة المديات كانت في أوروبا قبل المعاهدة بين موسكو وواشنطن، وقد تم خفضها إلى حوالي 15 ألف صاروخ بعد التوقيع عليها، وبالتالي فإن توقيف العمل بهذه المعاهدة سيعيد الأمور إلى المربع الأول بما يسمح لبعض الدول بتطوير أنظمتها الصاروخية لمواجهة الوضع الجديد، وبالتالي فإن عودة هذه الصواريخ إلى أوروبا سيؤثر على أمنها بالدرجة الأولى في ظل تهديدات أميركية بنشر المزيد من الصواريخ في شرق القارة العجوز، وتهديدات روسية مضادة بنشر صواريخ تغطي عموم أوروبا في حال فعلت واشنطن، وقد تنضم دول أخرى إلى هذا السباق بفعل التحديات الجديدة التي فجرتها خطوة ترامب، وعلى رأسها الصين والهند وباكستان وإيران وكوريا الديمقراطية دون تجاهل الكيان الصهيوني الذي يملك أجندة عدوانية تتجاوز حدود المنطقة، الأمر الذي سيهدد الأمن العالمي برمته، وفي ظل وجود رئيس أميركي إشكالي مأزوم داخليا وخارجياً ولا يحترم الاتفاقيات الدولية ولا يلتزم بالمعاهدات الموقعة مع بلاده، يصعب التكهن بما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب، ولا سيما أن هناك الكثير من بؤر الصراع والتوتر التي تجتاح العالم سواء في منطقة الشرق الأوسط أو شرق ووسط آسيا وصولاً إلى شرق أوروبا، حيث من الممكن أن تكون إحداها مسرحاً لمواجهة جديدة بين القطبين ولو بالوكالة ولا شيء مستبعد.
في المقابل أيضا لا يعني الانسحاب من المعاهدة أو تعليق العمل بها بالضرورة اندلاع حرب نووية بين الشرق والغرب، لكن قرار ترامب أثار المخاوف من تسارع السباق المحموم الرامي إلى تطوير وإنتاج الأسلحة النووية، لدى كلا المعسكرين، فضلا عن حلفاء واشنطن وموسكو.
كما قد يكون للانسحاب من هذه المعاهدة تبعات ضخمة على السياسة الدفاعية الأميركية في آسيا، وتحديدا تجاه الصين منافستها الإستراتيجية الرئيسية التي يخوض ترامب معها حرباً تجارية، والصين بطبيعة الحال ليست طرفاً في هذه المعاهدة ولا يترتب عليها أي التزامات تجاهها، وقد أنفقت أموالا كثيرة على الصواريخ التقليدية بسبب التدخل الأميركي في محيطها الاستراتيجي ودعمها لانفصال تايون عن الصين بقرار أحادي، في الوقت الذي تحظر فيه معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى حيازة الولايات المتحدة صواريخ بالستية تطلق من الأرض، أو صواريخ كروز يتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر.
انفراط عقد المعاهدة وعودة أجواء التوتر للعلاقات الروسية الأميركية سيؤثر على العديد من الملفات المشتركة، ويقلل من فرص التعاون لحل الكثير من الأزمات المشتعلة على الساحة الدولية، وليس هناك من مخرج سوى إيجاد صيغة جديدة يمكن أن تتفادى المزيد من التأزم، يقول رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي فيكتور بونداريف إن الصيغة الحالية للمعاهدة قديمة العهد وقد مر عليها أكثر من ثلاثين عاما حيث قامت اطراف عديدة بتطوير أسلحتها المحظورة، ومن الممكن إصدار صيغة جديدة تشمل المزيد من الدول، السفير الروسي في واشنطن أناتولي انطونوف حذر من نشر صواريخ أميركية في أوروبا مؤكداً أن بلاده سترد على ذلك بنشر صواريخ تغطي اوروبا بأكملها، كما عبر السفير أنطونوف عن خشيته من أن يعتقد قادة الولايات المتحدة أن بوسعهم ربح حرب نووية، معتبرا ان الفوز بحرب نووية بات مستحيلاً.
يشار في هذا السياق الى أن كلا الطرفين تبادلا في السنوات الأخيرة، الاتهامات بانتهاك المعاهدة وقدما مبرراتهما، لكن لم يقدم أي منهما على الانسحاب منها إلا بعد مجيء ترامب إلى البيت الأبيض.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الخميس 7-3-2019
الرقم: 16926