الثورة – تحقيق سهى درويش:
لم تعد ظاهرة تسوّل الأطفال مجرّد حالة عابرة، بل أصبحت مشهداً ينتشر في الشوارع المكتظة والأحياء الرئيسية.. تدفعهم الظروف، وتحتضنهم الشوارع، إذ يختلط الخطر بالحاجة، والحرّ والبرد بقسوة الجوع.
أيدٍ صغيرة تتشبث بزجاج السيارات، وعيون متعبة تحاول أن تنتزع عطف المارة مقابل مال لا يكفي لقطعة حلوى ولا يسدّ جوعهم وعطشهم.
ولكن هذه الظاهرة لم تعد مجرد انعكاس للفقر، بل تحولت إلى تجارة احترفها البعض، ليستثمروا ببراءة الأطفال.. هذه الأزمة الاجتماعية تتشابك فيها الأسباب سواء الاقتصادية أو النفسية والمجتمعية.. نتابع كثيراً من تفاصيل المشهد في هذا التحقيق.
طفولة تائهة
على الأرصفة تعدّدتْ أساليب بعض الأطفال في استعطاف المارة لجني النقود، وتطورت أساليبهم في الاستجداء، وفي التحايل أحياناً من خلال عرض بعض الأغراض بحجة بيعها لحاجتهم لشراء طعام أو شراب وحتى الدواء، بعضهم يكتفي باختيار بقعة محددة لتكون انطلاقة لعمله هذا.
كأن تكون زاوية رصيف يفترشه، وبجواره كرتونة مهترئة، يحجب عالمه الحزين بيديه الصغيرتين ويحتضن حلماً صغيراً لا أحد يشعر به.. لا ذنب له سوى أنه وُلد في عالمٍ لم يمنحه فرصة، ولا يملك سوى عينين تلمعان بالخوف.
حاورته بلطف عن أسباب نومه أمام المارة، فكان صمته مطبقاً، لا يريد التحاور أو الإجابة عن أي استفسار، ويداه لا تفارقان وجهه، ليتجنب النظر إلي.. لا تعبير يسعفه لإقناعي بحاجته، ويبدو أنه جديد على هذا العمل الذي لم يتقن أساليبه بعد.
طفلة أخرى، لم تتجاوز العشر سنوات، قالت: إن اسمها “لانا”، ولا تبعد عنه سوى بضعة أمتار على نفس الرصيف، إلا أن لديها من الجرأة ما يكفي لكسب المال.
فغايتها تبرر وسيلتها، وبعد أن دفعنا لها المعلوم تحدث لسانها بطلاقة وبلا حرج، فوالدها يجلس في المنزل، والعمل من واجبها هي وأمها وأخوتها، وتعلل أن الحاجة مرة، ولا سبيل لها سوى التسوّل، فواقعها مرير وقصتها طويلة، وهي لا تريد البحث فيها كي لا يتوقف عملها، فهي تدرك تماماً أنني أتيت في وقت ذروة العمل، والشارع مكتظ بالمارة.. وعدّتها من العلكة القليلة كادت تنتهي.
أمّا في نفق جامعة اللاذقية فللتسوّل أساليب مختلفة، وأعمار الأطفال هناك لا تتجاوز ست إلى سبع سنوات، يجيدون التسوّل، يطلبون ثمن علبة حليب، أو ثمن بسكويت أو عصير.
كثرتهم لافتة، أمّا مشغّلهم فلا يجاوز العشر سنوات، واختار زاوية يبيع فيها بعض الحاجيات، لكن عينيه تراقبهم، فهم مازالوا في طور استشارته في الانقضاض على المارة وإحراجهم لأخذ المال.
منظور علم الاجتماع
ولتسليط الضوء على أبعاد هذه الظاهرة، وأسبابها، ونتائجها على الأطفال التقينا رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة اللاذقية الدكتورة ايفا خرما، مبينة أن ظاهرة أطفال الشوارع من أبرز المشكلات الاجتماعية المعاصرة التي تعكس اختلال التوازن في البنية المجتمعية، وتكشف الفشل في أداء عدد من المؤسسات الأسرية، التربوية، فهي ظاهرة مركبة تنطوي على جوانب اقتصادية ونفسية وثقافية، لكنها تظل في جوهرها نتاجاً لسياقات اجتماعية متشابكة تفرض نفسها بقوة على المجتمعات، خاصة في البلدان النامية.
وأضافت د. خرما: من منظور علم الاجتماع، يُقصد بـ”أطفال الشوارع” أولئك الأطفال الذين يفترشون الأرصفة، ويقضون حياتهم في أماكن غير صالحة للنمو الطبيعي، دون إشراف أو حماية أسرية، ويكسبون قوت يومهم عبر التسول، وبيع السلع البسيطة، أو حتى عبر أعمال خطرة وغير قانونية.
وهؤلاء الأطفال لا يُشكلون شريحة واحدة، بل ينقسمون إلى فئات مختلفة، منهم: أطفال يعيشون في الشارع نهاراً ويعودون إلى أسرهم ليلاً، وأطفال انقطعوا تماماً عن أسرهم ويقيمون بشكل دائم في الشوارع.. وهناك أطفال يمارسون التسول أو العمل القسري تحت سيطرة شبكات منظمة.
أسباب الظاهرة
أوضحت د. خرما أنه من منظور علم الاجتماع لا يمكن فهم ظاهرة أطفال الشوارع من دون الرجوع إلى السياق المجتمعي العام، والذي تنتج فيه الظاهرة نتيجة لتفاعل عدة عوامل: أولاً: التفكك الأسري، المتمثل بضعف الروابط الأسرية، وسوء معاملة الأطفال، والعنف الأسري أو فقدان أحد الأبوين، كلها عوامل تدفع الطفل للهرب من البيت بحثاً عن بديل، حتى وإن كان الشارع.
إضافة للفقر والبطالة، حيث الظروف الاقتصادية الصعبة للأسر تؤدي إلى عدم القدرة على تلبية احتياجات الأطفال، ما يدفع البعض منهم للبحث عن مصدر دخل بأي طريقة.
ثانياً: قصور مؤسسات الرعاية في احتواء الأطفال المعرضين للخطر، بتركهم من دون بديل في الشارع.
ثالثاً: التهميش الاجتماعي له الأثر الكبير، فغالباً ما يأتي أطفال الشوارع من مناطق مهمّشة، تفتقر إلى البنية التحتية والتعليم والخدمات، ما يعمّق من شعورهم بالإقصاء.
الآثار الاجتماعية والنفسية
ورأت د. خرما أن هناك العديد من الآثار المترتبة على هذه الظاهرة منها: أولاً: الانحراف الاجتماعي، إذ غالباً ما يكون الشارع بيئة خصبة لتعلّم العنف، السرقة، وتعاطي المخدرات، والانخراط في الجريمة.
ثانياً: فقدان الهوية الاجتماعية، حيث يفقد الطفل شعوره بالانتماء، ما يؤدي إلى الانعزال أو العداء تجاه المجتمع.
ثالثاً: الحرمان من التعليم وهو ما يُسهم في إعادة إنتاج الفقر والتهميش على مدى أجيال.
رابعاً: الاستغلال الجنسي أو الاقتصادي، إذ تستغل بعض العصابات هؤلاء الأطفال للعمل أو التسول لمصلحتهم.
آليات المعالجة
تقول د. خرما: إن المعالجة تكمن في عدة عوامل، منها:
أولاً: توفير فرص متكافئة في التعليم والصحة.
ثانياً: إعادة دمج الأطفال في المجتمع عبر برامج إعادة التأهيل، وتوفير الرعاية النفسية والاجتماعية.
ثالثاً: تفعيل دور المجتمع المدني عبر الجمعيات والمنظمات التي يمكنها الوصول للأطفال وتقديم الدعم المباشر لهم.
رابعاً: قوانين حماية الطفل، وتطبيق قوانين صارمة ضد استغلال الأطفال، وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية.
خامساً: دعم الأسرة من خلال مساعدات اقتصادية وبرامج إرشاد أسري تحول دون تفكك الأسرة أو اضطرار الأطفال إلى الشارع.
وأكّدت أن ظاهرة أطفال الشوارع ليست أزمة فردية ولا مسؤولية الطفل ذاته، بل هي انعكاس لأزمة مجتمعية شاملة، ومن منظور علم الاجتماع، لا يمكن معالجة هذه الظاهرة من دون تفكيك الأسباب البنيوية التي أدت إليها، وإعادة النظر في دور الأسرة، المدرسة، والإعلام، وكل المؤسسات التي تُسهم في تشكيل المجتمع.
لنا كلمة..
هؤلاء الأطفال وجع لا يشفى إلا بتكاتف الجهود المجتمعية لإنقاذ طفولتهم المهدورة، وواجب أخلاقي لا يحتمل التأجيل، وحتى لا تبقى الطفولة مشرّدة على قارعة النسيان، يحتاج هؤلاء الأطفال إلى عطف حقيقي يترجم إلى سياسات حماية شاملة، وإلى يقظة ضمير جماعية توقف نزيف البراءة في شوارعنا.
فهم ضحية أسرهم والمجتمع، ولا يملكون سقفاً آمناً يحميهم، أو مدرسة تحضن عقولهم، ولا يداً حانية تمسح عن وجوههم الشقاء.. فالتسول لا يهدد حاضرهم فقط، بل يسرق مستقبلهم.