جدلية العلاقة بين الاقتصاد والسياسة

الملحق الثقافي..حاتم حميد محسن:

 يهتم علم الاقتصاد بدراسة الاقتصاد ومحاولة التأثير فيه. أما السياسة فهي تسعى نظرياً وتطبيقياً للتأثير على الناس عبر ممارسة السلطة من خلال الحكومة أو الانتخابات أو الأحزاب السياسية.

نظرياً، يُعتبر الاقتصاد غير سياسي، الاقتصادي المثالي يجب أن يرفض أي انحياز سياسي أو محاباة لكي يعطي معلومات محايدة وتوصيات غير منحازة حول كيفية تحسين الأداء الاقتصادي للبلد. السياسيون المنتخبون يقومون لاحقاً بتقييم هذه المعلومات الاقتصادية واتخاذ القرارات على ضوئها. أما في التطبيق فهناك علاقة قوية بين الاقتصاد والسياسة، لأن الأداء الاقتصادي هو الميدان الرئيسي للمعركة السياسية. العديد من القضايا الاقتصادية هي بطبيعتها سياسية لأنها ذاتها تتأطر بمختلف الآراء السياسية.

 

 

تأثير الأيديولوجيا السياسية
العديد من القضايا الاقتصادية يُنظر إليها من زاوية المعتقدات السياسية. فمثلاً، بعض الناس يميلون بطبعهم للشك بتدخلات الحكومة. لذلك، هم يفضلون السياسات الاقتصادية التي تسعى لتخفيض تدخلات الحكومة في مجالات الاقتصاد. فمثلاً «اقتصاديات جانب العرض»(1) تركز على اللامركزية والخصخصة وخفض الضرائب.
ومن جهة أخرى، قد يفضل الاقتصاديون تعزيز أكبر قدر ممكن من المساواة في المجتمع ولديهم رغبة أكبر في تشجيع التدخل الحكومي لتحقيق ذلك الهدف.
إذا كان مختلف الاقتصاديين يرغبون بخفض الضرائب المفروضة على الأغنياء، فان مقترحاتهم هذه ستعكس أفضلياتهم السياسية. يمكننا دائماً العثور على دليل يدعم فوائد خفض الضرائب. وكذلك العثور دائماً على دليل يدعم فوائد الضرائب العالية.
بعض الاقتصاديين تجدهم محايدين إلى أقصى حد وليست لديهم أي ميول سياسية. هم ربما يعرضون ورقة تتحدى آرائهم السابقة. ورغم أفضلياتهم، هم قد لا يجدون دليلاً يدعم خصخصة قطاع السكك الحديدية، وربما يرون قطع الضرائب يزيد فعلاً من مستوى الرفاهية الاقتصادية.
السياسيون يمكنهم استخدام أولئك الاقتصاديين وتلك البحوث الاقتصادية التي تدعم آراءهم السياسية. السيدة تاتشر ورونالد ريغان كانا من الداعمين الكبار لفريق اقتصاديات جانب العرض مثل ميلتون فريدمان وكيث جوزيف وفريدريك هايك. عندما حاول ريغان «تقليص حدود الدولة»، كانت هناك وفرة في عدد الاقتصادين القادرين على توفير تبرير نظري للتجربة السياسية. اقتصاديون آخرون اعتبروا هذه الفكرة سيئة، غير أن الاقتصاديين يمكن أن ينالوا الدعم من جانب أنصارهم السياسيين. في الولايات المتحدة، جرى الترحيب من جانب الجمهوريين بمقترحات بول ريان حول الموازنة، لأنها وعدت بخفض الضرائب، وخفض المساعدات الاجتماعية وإيجاد توازن في الموازنة، وهو الاختيار المفضل للسياسة من جانب الجمهوريين.

الفكر الاقتصادي
من جهة أخرى، نجد الاقتصاديين الذين يلتصقون بالبيانات ويتجنبون اختيار الاحصاءات المفضلة قد يتوصلون إلى استنتاجات وتوصيات لا تنسجم مع القضايا السياسية المتصورة سلفاً.
العديد من الاقتصاديين ربما يدعمون الاتحاد الأوروبي وأشكال التعاون، لكن الدليل من منطقة العملة الموحدة يفيد بأنها سببت العديد من المشاكل الاقتصادية لدول الاتحاد كضعف النمو والانكماش وعدم التوازن التجاري.

الكلفة الاجتماعية
يمكن لطلاب الاقتصاد اتخاذ موقف بيغوف Pigovian tax الضريبي الذي بموجبه يدفع الناس كامل الكلفة الاجتماعية للسلعة وليس فقط الكلفة الخاصة. هذا المبدأ في جعل الملوّث يدفع كامل الكلفة يوفر دفاعاً لضريبة الكاربون وكلفة الزحام وضريبة الكحول وضريبة التبغ.
غير أن إمكانية تطبيق هذه السياسات يعتمد على مدى الدعم السياسي لها من جانب السياسيين.
فمثلاً، ضريبة الزحام جرى اقتراحها في مانشستر، لكنها جوبهت بهزيمة ماحقة في الاستفتاء. الضرائب الجديدة نادراً ما تكون مقبولة. الاقتصادي ربما يرغب بفرض المزيد من ضرائب الازدحام، لكن هذه الرغبة هي غير مرغوبة سياسياً.

الدعوة للتقشف
مثال آخر مهم هو اللجوء السياسي للتقشف. بعد أزمة الائتمان الأخيرة، كان هناك تبرير سياسي قوي للسياسة المالية التوسعية لملء فجوة الطلب المتراكم، لكنه من الناحية السياسية يصعب تطبيق سياسة تؤدي إلى مزيد من ديون الحكومة. قد يكون هناك منطق اقتصادي قوي لإدارة الطلب الكنزي أثناء فترات الركود، لكن الرغبة السياسية نحو الحاجة لشد الأحزمة أو تجنب المديونية ستكون شعاراً يسهل تسويقه للجمهور العام بدلاً من المزيد من «نظريات المضاعف الكنزية»(2).

من يدير الاقتصاد؟
حالة أخرى ملفتة هي العلاقة بين السياسة المالية (التي تضعها الحكومة) والسياسة النقدية (التي تضعها جهة مستقلة مثل البنك المركزي). في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأوروبا تكون السياسة المالية تقليصية نسبياً، وفقاً للوضع الاقتصادي للبلاد. وبالنتيجة، أصبح من مسؤولية البنوك المركزية تطبيق سياسة نقدية توسعية لتعويض العجز في السياسة المالية. إذا كان السياسيون يتبعون سياسة مالية تقليصية، فإن على البنوك المركزية تكييف سياستها النقدية.

الاقتصاد الجزئي
هناك بعض المجالات في الاقتصاد يقال إنها متحررة من السياسة مثل العرض والطلب الأساسيين ومفاهيم مثل نظرية الشركة غير الخاضعة للأيديولوجيا السياسية. ولكن حتى في الاقتصاد الجزئي ستكون هناك إمكانية لتدخل السياسة. عندما نتأمل في قضية مثل الخصخصة، ستكون هناك قضية سياسية واضحة وهي منْ يجب أن يسيطر على الصناعات الأساسية هل هي المشاريع الخاصة ام الحكومة؟

الأجندات
قضية أخرى في الاقتصاد هي أن البعض ينتقد فكرة أولوية النمو الاقتصادي وتعظيم الرفاهية النقدية. هؤلاء يرون أن هدف المجتمع ليس تعظيم الناتج المحلي الإجمالي GDP وإنما تعظيم السعادة الإنسانية وتحسين البيئة، وأن نكون مقتنعين بما نملك. لذلك، فإن السياسيين من خلفيات بيئية مختلفة قد لا يتفقون على كل البناء الكامن وراء الاقتصاد الكلي. إنه ليس فقط حول طريقة تعزيز النمو الاقتصادي، وإنما حول ما إذا كان يتوجب علينا السعي نحو نمو اقتصادي في المقام الأول. هذه قضية سياسية أيضاً.
….
الهوامش
(1) اقتصاد جانب العرض supply side economics هو نظرية اقتصادية ترى أن قيام الحكومة بخفض الضرائب على الشركات، يساعد في تحفيز الاستثمار في الصناعة ومن ثم زيادة الإنتاج الذي بدوره يخفض الأسعار ويكبح التضخم.
(2) تُعتبر فكرة المضاعف Multiplier من أهم الافكار في نظرية الاقتصاد الكلي، حيث تم إدخال هذه الفكرة في الثلاثينات من القرن الماضي بواسطة ريتشارد خان الذي أطلق على الفكرة اسم «مضاعف الاستخدام»، أما كنز فقط طور المفهوم لاحقاً وأطلق عليه «مضاعف الاستثمار أو مضاعف الدخل». جوهر الفكرة هو أن أي إنفاق حكومي يؤدى إلى خلق دورة من زيادة الاستخدام والازدهار في الاقتصاد بصرف النظر عن شكل ذلك الإنفاق. فمثلاً إنفاق 100 مليون دولار في بناء سدود أو شبكات ري، سيؤدي إلى زيادة في الدخل القومي بمقدار 300 مليون دولار، وهنا سيكون المضاعف 3، أما لو أدى إنفاق الـ 100 مليون دولار إلى زيادة في الدخل القومي بمقدار 400 مليون دولار، هنا ستكون قيمة المضاعف 4. الإنفاق الحكومي الأول الذي مقداره 100 مليون دولار ربما سيذهب منه 50 مليون دولار كأجور للعمال الذين بدورهم سينفقونه على شراء سلع جديدة أو زيادة الشراء من السلع القديمة. هذه الزيادة في الطلب على السلع ستدفع أصحاب المصانع لتوظيف مزيد من العمال، والذين بدورهم يستلمون دخولاً جديدة، وهكذا، كل دورة من الإنفاق تتبعها دورات أخرى من زيادة الدخل القومي، وبالتالي سيؤدي أي إنفاق حكومي إلى زيادة في النمو الاقتصادي.

التاريخ: الثلاثاء2-4-2019

رقم العدد : 16946

آخر الأخبار
وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص