تستعر المواجهة، وتتخذ أبعاداً أكثر شموليةً، وتتجاوز في كثير من الأحيان الخطوط الحمر المرسومة داخل قواعد اشتباك متفقٍ عليها، أو يتمّ التفاهم من دون اتفاق على مراعاتها، بصيغ تبدو اليوم أمام اختبارٍ صعبٍ، لابدَّ من الحسم فيه، لاعتبارات تتعلق بالرغبة في تجاوزها مع ادعاء الحفاظ على وجودها، أو زعم الحرص على إبقائها قيد التداول، وفي ظل مؤشرات على البدء بتغييرها، مع السعي لتهميش ما لا يلزم منها.
وما يجري اليوم من حصار اقتصادي جائر تتم ترجمته عبر ضغط وتسخين في الاستهداف ورفع منسوب العدوانية وتشديد العقوبات، تجاوز كل الخطوط والمسمّيات، ما يملي إعادة تشكيل عوامل القوى وابتكار أدوات للمواجهة وفق معايير إضافية، تأخذ بالحسبان المتغيّرات، لتكون على مستوى الاستهداف، وفي الحدّ الأدنى، لتكون قادرةً على صدّ الموجة القادمة من تلك العدوانية، وقلب المعادلات التي تفرضها حالة الاستلاب.
مبدأ الأشياء أنّ أيَّ تغيير أو تجاوز يقتضي تعديلاً في المقاربة المقابلة له، بحكم أنّ العلاقة الجدلية هي متعدية بذاتها وتفرض نمطاً من المفاهيم، ترسم حدود الهامش المتاح والمسموح به والممنوع على قاعدة سياسية معمول فيها حتى اللحظة، «إن الضرورات تبيح المحظورات»، وهو مبدأ لابدّ من الأخذ به، باعتباره كلاً لا يحتمل التجزئة، ولا يقبل التقسيم.
فمنظومة العدوان، التي استخدمت ما لديها من قوة عسكرية وسياسية بفائضها الاقتصادي والدبلوماسي والإعلامي والنفسي، تفترض أنّ المعادلة التي أنشأتها على مقاس فائض القوة لديها، ستكون هي المعيار والمقياس، محاولةً تناسي أنّ الخيارات أيضاً على الضفة الأخرى، تمتلك مروحة واسعة، وأنَّ الضغط والحصار لابدَّ أن يولدا أشكالاً جديدة من المقاومة، التي لا تأخذ كثيراً بحسابات منظومة العدوان، ولا بمعادلاتها.
هذا إذاً ما تمَّ إسقاطه عملياً على ما ينشأ في ظل احتدام المواجهة، ومع ارتفاع منسوب الاستهداف ومحاولة الاستماتة الأميركية، لفرض معايير هيمنتها على العالم، تتشكل مشاهد متباينة، تُملي فرضيات ذات أبعاد عالمية، لأن المواجهة لن تقتصر على جانب محدّد، ولن تكون على نطاق ساحة واحدة، وإن حاولت منظومة العدوان الاستفراد بالساحات، واحدةً تلو الأخرى.
فالمسألة ما دامت ترسم أفقاً واضحاً، بأنّ الجبهات كلها مرشحة للتسخين غرباً وشرقاً.. شمالاً وجنوباً، فإنَّ المشهد المقابل يرتدي بدوره أشكالاً مختلفة، تعيد ترسيم الواقع وفق حسابات ومعادلات، لا تأخذ كثيراً بمسألة الصبر، ولا تقف طويلاً عند حدود الاختبار للقوى.. أرضنا لنا وستعود.. وثرواتنا ملكنا وحق لنا.. ولن تبقى نهباً لمرتزق أو متآمر أو محتل أو طامع.
اختبار الصمود والقدرة على التحمل، اللذان يتسعان باتساع موجة الاستهداف، يعطيان البديل الموضوعي الذي لابدّ من طرحه على الطاولة بوضوح، ولابدّ أن يخطَّ رسائل المواجهة، فلا تختبروا صبرنا، ولا تمتحنوا قدراتنا، ولا تجربوا وضعنا في الزاوية الصعبة ولا تتوهموا استحالة البدائل، ولا تبالغوا في شهوانيتكم العدوانية، ولا تتركوا الحبل على غاربه.
فرضتم المواجهة فصمدنا.. اخترتم جبهاتها وأمكنتها وطريقتها، فبقينا حيث يجب أن نبقى، استعنتم بمرتزقة وقتلة مأجورين، وحشدتم الإرهابيين ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً، فنجحنا في كسب الجولة، وسننجح في التالية، لن نقف صامتين، ولا متفرّجين، ولا حياديين، فإذا كان الخيار بين المواجهة على الجبهات وداخل الخنادق، وبين التجويع والحصار والحرمان، فلنا في الخيار الذي قبلناه مراراً وتكراراً وكسبناه.. وسنكسبه.. وأُعذر من أنذر.
الافتتاحية
بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
a.ka667@yahoo.com
التاريخ: الجمعة 19-4-2019
رقم العدد : 16961
السابق