التاريخ لا يتكرر، ولكن الأحوال التي تمر بها الأمم في التاريخ تتماثل بأوجه كثيرة ولا سيما في لحظات الانبعاث ولحظات الانحطاط، أما الانبعاث يبقى للاعتبار والتغني يضخ أمجاداً وأدباً تتوارثه الأجيال إلى أن يتحول إلى مجرد أطلال وقد غطاها البلى وطمرتها المتغيرات القاسية، ولكن لحظات الانحطاط ما برحت تترك ندوباً في عقل الأمة وجسدها وهي حينما تتسلل بمقوماتها والقوى الحاملة لها إنما تصبح عند ذلك مصدراً للتشابه الذي لا بعد أن يؤدي إلى صحوة مهما تضاءلت في انتشارها جغرافياً وديمغرافياً واليوم نتذكر نهايات الخلافة، وقد ذهبت عناصر التناقض والانحطاط والتخلف في الأمة العربية كل مذهب، وانتشرت وقائع الأشلاء الممزمة وصار العدو عندها صديقاً بل حاكماً ومسؤولاً وتوضحت معالم الانتماء للأجنبي، والانحطاط صيغة شاملة عامة ولكن أخطر مظاهرها هو تلاشي الإرادة، والانتماء للأجنبي العدو، والتنازل عن الحقوق والانغلاق على الذات، والصورة المأساوية تمثلت في عصر الانحطاط العربي حيث طمعت قوى الغزو والهمجية في افتراس الأرض العربية ويومها صار آخر الخلفاء العباسيين يقول بغداد تكفيني أمام الاجتياح التتري المغولي، ويومها قتل هذا الخلفية بشقه نصفين على قوة أحصنة هائجة ومتدابرة، وفي الأمة مواضع حية وإن صغرت، وفيها جذور رطبة وإن جف ما علاها من التربة والقيم، وكانت دولة بني حمدان في حلب تمثل تلك الجذوة وقد قدمت هذه الدولة مثالاً يصل إلى حدَّ الأسطورة في الصراع ضد الروم البيزنطيين والتشبث بما بقي للعروبة والإسلام والعلم والحضارة والأدب والفن من قواعد ورابط ويومها قال المتنبي لسيف الدولة وفيه:
لو تحرفت عن طريق الأعادي
ربط السدر خيلهم والنخيل
وسوى الروم خلف ظهرك روم
فعلى أي جانبيك تمثل
والقصيدة سفرٌ من الدروس والآلام والتذكير بالجذور ونبوغ المواقف، كل هذه المقدمة سقتها باختصار لأقتبس من التاريخ البعيد ما يسعفنا في فهم ما يجري الآن في الوطن العربي، وها هنا تتدافع الحقائق والصور فإذا بسورية العربية تُنجز هذا الأداء وحيدة منفردة في ردّ العدوان وصدر رياح الموت والفناء والوسيلة في البشر وفي القيم هي شهادة لا تنصب وشهداء يغطون مساحة الكون ما بين الأرض والسماء، وإذا بسيف الدولة ينبعث في قيمه ومثله وقيادته وصموده عبر الرئيس القائد الشاب بشار الأسد، والصور تتعرى إذ العدو البيزنطي الروماني هو الآن تركيا أردوغان في ذات الموقع وقد اجتمعت لهذا الموقع موجات الإرهاب التي كانت تُصنع وتُصاغ في جحور ومؤسسات الدول العظمى مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا وباستمرار كان المال العربي الداشر يسفح بلا حساب لإنتاج هذه الظاهرة التاريخية السوداء المتمثله في تدمير الوطن السوري وهدم أركانه وجتثاث ذاكرته وقضم وجوده الموحد في مسعى لتحويله إلى أشلاء وكيانات لا قيمة لها إلاّ على قدر ما ترتبط بالخارج الخطير والانحطاط المسيطر.
إنها ليست لوحة سياسية بل هي كشف عميق وواسع لكل الحقائق التي تسيطر على الوطن العربي من داخله والتي يتناقض فيها الانتماء من مرحلة القيم والذمم إلى حيث الأجنبي المستعمر والقاتل وهناك على الدوام عنصران يتغلغلان في خط سير المشروع المشؤوم هما المال الغزير والحرام والفكر الديني الذي شوه الإسلام وأطلق فيه معايير تبرير القتل والانتحار وكان المال والفكر يتحركان بوجهة واحدة في مسعىً واضح لكي تتساقط كل المواقع الحية في الوطن العربي وهنا حدثت لحظة فيها انقلابان خطيران لا يزالان يتحكمان حتى اللحظة في صياغة أطر ومقومات الوطن العربي في نسخته القاتمة الراهنة، كان الانقلاب الأول يتكرس في استهداف كل مواقع الحياة في التاريخ العربي قديمه وحديثه ولا سيما في تفكيك خط التاريخ الممتد من مصر العربية إلى فلسطين العربية إلى سورية العربية إلى العراق العربي، وقد كان هذا الخط مصدراً للانبعاث أولاً ولإعادة بناء الحياة العربية مهما تناوبت عليها أهوال وأحوال قادمة من الشرق أو من الغرب، وحدث التطبيق وخرجت مصر في الظلال القاتمة لكامب ديفيد، وخرج العراق في مجزرة الحرب العراقية الإيرانية، وخرجت فلسطين بفعل أوسلو وما واكب أوسلو من آراء وانحرافات انتهت إلى أن صار العدو الصهيوني هو وجود مجاور بل هو وجود آمر ومسيطر، وفي عمق هذا الزلزال حاول الطامعون الاستفراد بسورية العربية، وهنا كان لا بعد من الحرب الأهلية في لبنان وتحويل هذا البلد إلى عبء على سورية وإلى خاصرة بجروحها المفتوحة النازفة، والهدف النهائي هو تحويل لبنان الشقيق إلى ممر للعدوان على سورية وإلى مستقر يجتمع فيه العملاء والمأجورون، وهنا انبعث الدور السوري وصار لبنان قوياً بضعفه وموحداً بهويته وموقعاً لسورية على العدو وليس العكس وقد جرت التحولات الكبرى منذ العام 2000 والانتصارات الأكبر منذ العام 2006، ونعود للحظة السوداء التي أرادوا نشرها إذ سرعان ما أكملوا العدوان على سورية عبر مؤامرة التنظيم العام للإخوان المسلمين في السبيعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، كان المنظور واضحاً وفي الصراع المصيري أنظمة خائنة تبحث عن مجرد استمرارها في مجرى الحياة وما فيها من شذوذ ومتع ذاتية.
وهنا الموكب القومي السوري الذي ما زال يخوض المعارك الكبرى ليؤسس للعرب وجودهم ومصادر التحرك نحو مصيرهم، ومن هنا كانت هذا المنهجية في زرع الفوضى والنزاعات في كل المواقع التي نمت فيها أصول الوعي العربي ولا سيما في سورية العراق والجزائر والسودان واليمن وليبيا وكان هذا التوجه يتطلب ضمناً إطلاق الأنظمة الملكية على أنها هي الباقية وهي السائدة وفي هذه المنطقة.
د. أحمد الحاج علي
التاريخ: الثلاثاء 7-5-2019
الرقم: 16971