في السادس من أيار من كل عام تتجدد ذكرى أنبل وأكرم الناس، ذكرى شهدائنا العظام الذين افتتحوا عصر الشهادة بتضحياتهم العظيمة، وكتبوا أسماءهم وسطروا اسم بلادهم بماء الذهب على صفحات التاريخ الخالدة، ليكونوا بذلك الأنموذج الأرقى والأسمى في حب الوطن وصونه لكل الأجيال التي ستأتي من بعدهم، فهم الشرفاء الذين استعذبوا الموت واسترخصوا الحياة لتحيا أمتهم حرة كريمة، وضحوا بأغلى ما لديهم لتصان الأمانة ويُحفظ العهد، جاعلين من الموت جسر عبور للحياة بكرامة وشرف وعزة وإباء.
لم يكن شهداء السادس من أيار العظام الذين تشرفت أعواد المشانق في ساحة المرجة بدمشق بحمل أجسادهم الطاهرة سوى قافلة أولى من قوافل الشهداء الكثيرة على طريق النضال من أجل السيادة والحرية والكرامة والاستقلال وصون الوطن والدفاع عن كل حبة من ترابه الطاهر، ففي كل مناسبة دعا فيها الواجب كانت قافلة جديدة تلبي وتهب لتصون الأمانة وتحفظ العهد وتعبد الطريق أمام قافلة أخرى ليبقى وطن الشمس والأبجدية حرّاً مقدساً عصياً على الطامعين والمعتدين وأصحاب النوايا الخبيثة من المستعمرين وأدواتهم وعملائهم، بحيث لم يبقَ شبر واحد من هذا الوطن ولا حبة تراب لم تعطر بدماء الشهداء الأحرار الأبرار.
منذ ثماني سنوات ونيف من الحرب الارهابية العالمية على سورية قدّم أحفاد العظماء في السادس من أيار وهم عبد الحميد الزهراوي وعمر الجزائري وشفيق مؤيد العظم ورشدي الشمعة ورفيق رزق سلوم وشكري العسلي وعبد الوهاب الانكليزي وغيرهم من شهداء تلك المرحلة، أروع الأمثلة على البذل والعطاء والفداء والتضحية بكل غال ونفيس، وتحوّلت كل بقعة من أرض سورية الغالية ساحة لملحمة بطولية خارقة صنعها أبطال الجيش العربي السوري ومن ساندهم ووقف إلى جانبهم من أبناء الشعب العربي في سورية، ودارت معارك شرسة مع عملاء المشروع الصهيو أميركي تركي وهابي من إرهابيين تكفيريين وقتلة مأجورين ومرتزقة مستوردين من نحو ثمانين دولة، لتشهد أرض سورية على اندحار أكبر مؤامرة كونية استهدفت تركيع وطن السادس من أيار عام 1916 ومحو ملحمة الشرف في ميسلون عام 1920 والنيل من عرس الاستقلال عام 1946 وإضعاف روح تشرين التحرير عام 1973 والإجهاز على روح المقاومة التي حررت لبنان عام 2000 وألهمت أبناء فلسطين المقاومة والانتفاض على غطرسة العدو الإسرائيلي وقمعه، فكان الأحفاد الأشاوس الشجعان عند الموعد ليكتبوا في كل يوم من أيام السنة قصيدة جديدة احتفاء بالسادس من أيار وتكريماً لرجالاته العظام، وأغنية جديدة تليق بمعركة ميسلون وأعياد نيسان وبطولات تشرين، وليزرعوا في ضمير الأجيال القادمة أن وطن العزة الكرامة والتضحية والفداء محال أن يهزم، وأن الشهادة هي الطريق الحتمي لإحراز النصر الأكيد.
شهداء الجيش عنوان الانتصار
منذ الأيام الأولى لهذه الحرب الارهابية على سورية عام 2011 اتضح بقرائن وأدلة قاطعة لا تحصى ولا تعدّ أن الجيش العربي السوري حامل لواء تحرير ما تبقى من أرض محتلة في الجولان وفلسطين، والمدافع عن حدود الوطن من كل غاز ومعتدٍ وطامع هو المستهدف الأول منها، باعتباره السياج الحامي للأرض والعرض والشرف والكرامة والمدافع عن الدولة والشعب والمنجزات، فكان قراره أن يخوض المعركة حتى نهايتها مهما كانت التضحيات والصعوبات والتحديات، والتصدي لهذه المؤامرة الدنيئة بكل قوة وشجاعة، وهزيمة أصحابها والداعمين لها بأي ثمن، لتتحول أرض سورية على مدى ثماني سنوات ساحة حرب عالمية جديدة تتجاوز الحدود الجغرافية المعروفة، بحيث لم يوفر فيها أعداء الأمس واليوم وحلفاؤهم وأدواتهم أي نوع من الأسلحة الفتاكة والمدمرة لتحقيق أهدافهم مستخدمين كل أساليب الحرب القذرة من خداع وتضليل وضغط سياسي وإعلامي وحصار اقتصادي وديبلوماسي ..إلخ، ولكن سرعان ما تحوّلت هذه الأرض الطاهرة المباركة إلى مقبرة لمئات آلاف العملاء والقتلة المأجورين والإرهابيين التكفيريين القادمين من أربع جهات الأرض، ومدفن لأطماع قوى استعمارية عالمية كبرى وطموحات قوى إقليمية حاولت إعادة عقارب الساعة إلى الوراء واستعادة بعض «أمجادها» الغابرة، ليفشلوا فشلاً ذريعاً أمام جبروت أبناء الجيش العربي السوري الذين قدموا عشرات آلاف الشهداء قرابين من أجل هذه الأرض الطاهرة، واستبسلوا في الذود عنها «قادة وأفراد» فكانت تضحياتهم الكبيرة عنواناً لنصر كبير بدأت ملامحه ترتسم بوضوح ويكاد يعترف ويقرّ به الأعداء قبل الأصدقاء.
شهداء الكلمة..
لم يكن أبطال الجيش العربية السوري وباقي القوى الرديفة التي ساندته وحدهم في المعركة بل كان ثمة أبطال آخرون كان سلاحهم الكلمة والموقف، وقفوا إلى جانب جيشهم ورافقوه في الخنادق والجبهات وتسلحوا بالحقيقة وحب الوطن ورسالتهم الإعلامية في مواجهة محطات وأبواق التضليل والزيف والخداع ونقلوا بطولات أبناء القوات المسلحة وملاحمهم في تقاريرهم وأخبارهم وتغطياتهم فارتقى لهم عشرات الشهداء في الميدان وامتزجت دماؤهم وحبرهم بدماء وعرق حماة الديار، فكانوا قدوة لكل من يريد أن يشهر الكلمة سلاحاً في زمن التضليل والكذب.
شهداء آخرون..
ولم تقتصر التضحيات فقط على أبناء الجيش العربي السوري والقوات الرديفة ورجال الإعلام بل كان هناك جنود مجهولون كثر من أبناء شعبنا قدموا أرواحهم ودماءهم لكي تستمر الحياة وينتصر وطن الشمس والأبجدية والحضارة، إذ استشهد الكثير من الفلاحين في حقولهم ومزارعهم والكثير من العمال في معاملهم ومؤسساتهم، وثمة شهداء كثر في قطاعات التربية والتعليم والكهرباء والطاقة والصحة والنقل وغيرها، بذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل مؤازرة جيشهم البطل في معركته القاسية والطويلة، ولم يتأخروا عن تقديم أي خدمة يحتاجها مجتمعهم وأبناء شعبهم فكانوا قوة إضافية لا يمكن الاستغناء عنها، ليكون الانتصار الذي تحقق والذي يستكمل هذه الأيام على جبهات ريف حماه الشمالي وإدلب وأرياف حلب واللاذقية والجزيرة السورية، حصيلة كل هذه التضحيات العظيمة التي قدمها أبناء شعبنا في مختلف الاختصاصات والمجالات والميادين، الأمر الذي يعطي لقيم الشهادة عموماً ولعيد الشهداء بشكل خاص أبعاداً جديدة تزيد من عظمتها وقداستها وأهميتها في تحصين الأوطان وصيانة استقلالها وحريتها وكرامتها، فكل التحية والإجلال لأرواح شهداء السادس من أيار ولأرواح كل الشهداء ارتقوا من بعدهم في معارك لاحقة ولأرواح شهداء سورية الذين ارتقوا في هذه الحرب ولأرواح الشهداء الذين سيرتقون في المستقبل على طريق صنع الانتصار وولاة فجر الحرية والتحرير.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الثلاثاء 7-5-2019
الرقم: 16971