الثورة – عبد الحميد غانم:

في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تواجهها سوريا، تتزايد الحاجة إلى شبكات أمان اجتماعي فعالة ومستدامة للحماية والدعم الاجتماعي. يستعرض الخبير الاقتصادي الدكتور علي محمود محمد دور الحكومات في توفير هذه الشبكات، مستنداً إلى تجربة برنامج المساعدات الغذائية الأميركية SNAP، ويقدم رؤية متكاملة لتطبيق هذا النموذج في سوريا.
وحول شبكات الأمان الاجتماعي ودور الحكومة في حمايتها للفئات الهشة، يقول الدكتور محمد في تصريح لـ”الثورة”: إن شبكات الأمان الاجتماعي هي الإجراءات التي تقوم بها الحكومات لتوفير الحماية والدعم للطبقات والفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، خاصةً الأسر الضعيفة الدخل والمتضررة من ظروف الحروب أو الكوارث الطبيعية، إضافةً إلى كبار السن والأطفال والعاطلين عن العمل. مشيراً إلى أن الهدف الأساسي هو توفير حد أدنى من الكفاية المعيشية لهذه الفئات وحمايتها من الهزات الاقتصادية والصدمات الناتجة عن قرارات اقتصادية أو أزمات طارئة.
وبين الدكتور علي أن الحكومات هي الجهات الأكثر قدرة على بناء وإدارة هذه الشبكات، لأنها المسؤولة عن وضع القوانين وتحديد الفئات المستهدفة، إضافةً إلى توزيع الموارد بشكل عادل وشفاف، والاستدامة هنا تعتبر من الأولويات، إذ يجب أن تكون الشبكات مستمرة وليست مؤقتة، ما يساهم في رفع المستوى المعيشي ومحاربة الفقر وتعزيز التنمية الاقتصادية.
معايير موضوعية
ويوضح الدكتور علي أن برنامج SNAP (برنامج المساعدات الغذائية الإضافية في الولايات المتحدة) مثال واضح لبرنامج أمان اجتماعي مستدام، يقدم دعماً غذائياً مستمراً وليس مؤقتاً، ويذكر أن هذا البرنامج لعب دوراً فعّالاً في إخراج ملايين الأميركيين من تحت خط الفقر، ما منحه لقب “مثبت الفقر”، حيث يمنع تدهور أوضاع المستفيدين إلى ما دون مرحلة الفقر.
ويؤكد الدكتور علي أن نجاح البرنامج يعتمد على دقة البيانات في تحديد المستفيدين والرقابة الصارمة على آلية توزيع الموارد، مع توفير مرونة كبيرة في توسيع أو تقليص الدعم حسب الظروف الاقتصادية والأزمات الطارئة، وهو ما يمكن أن يشكل نموذجاً لتطوير نظام دعم مماثل في سوريا.
وحول مقومات تطبيق شبكة أمان اجتماعي ناجحة في سوريا، يرى الدكتور علي أن تطبيق برنامج مماثل في سوريا يجب أن يعتمد على: تحديد دقيق وشفاف للفئات المحتاجة يستند إلى معايير موضوعية تشمل الدخل والظروف الاجتماعية وانعكاسات الحرب، وإلى مرونة في إدارة وتوسيع التدخلات بحسب تطورات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وإلى استدامة التمويل، والتي قد تتطلب دعماً من المجتمع الدولي والقطاع الخاص إلى جانب الميزانية الحكومية، وكذلك برامج مرافقة مثل التدريب المهني وتهيئة فرص العمل لضمان خروج مستدام من دائرة الفقر.
ويخلص الخبير الاقتصادي الدكتور علي محمود محمد إلى أن نجاح شبكات الأمان الاجتماعي ليس فقط في تقديم مساعدات مؤقتة، بل في أن تكون منظومة متكاملة ومستدامة تحفظ كرامة الفئات الهشة وتعزز من قدراتها المستقبلية، والاستفادة من دروس برنامج SNAP الأميركي يمكن أن تساعد سوريا في بناء نظام دعم اجتماعي يتكيف مع ظروفها الخاصة ويعزز التنمية الاجتماعية والاقتصادية على المدى البعيد.
دور الدولة في حماية الفئات الهشة
بدوره الخبير الاقتصادي الدكتور عامر خربوطلي، يؤكد أن من مسؤوليات الحكومة الأساسية: “توفير بيئة محفزة” تتضمن بين جوانبها حماية المواطن من هزات السوق وتقلبات الاقتصاد، وهذا يتجلى عملياً في برامج، مثل برنامج المعونة الغذائية (SNAP) في الولايات المتحدة الأميركية، والذي يظهر أنه حتى في أكثر اقتصادات العالم حرية، تتدخل الدولة لتوفير شبكة أمان اجتماعي للأسر محدودة الدخل.
وقال في تصريح لـ”الثورة”: إن بناء سوريا الحديثة يتطلب استهدافاً دقيقاً للشرائح المجتمعية الأقل دخلاً، وتوفير الحد الأدنى للمعيشة، ليس كعمل خيري، بل كاستثمار في رأس المال البشري، الذي يمثل منجماً حقيقياً للثروة المستقبلية.
وأضاف: على الرغم من الصورة النمطية عن الاقتصاد الأميركي، كرمز للرأسمالية المتوحشة، فإن برنامج SNAP يقدم نموذجاً مختلفاً، وهذا البرنامج الاتحادي يوفر دعماً غذائياً للأسر ذات الدخل المحدود، إذ تقدم الحكومة الفيدرالية فوائد غذائية لتكميلة ميزانية الأسر الغذائية حتى تتمكن من شراء طعام صحي.
يخضع البرنامج لمعايير دقيقة للتأكد من وصول الدعم لمستحقيه، إذ يتم التحقق من الأهلية بناءً على معايير مالية وغير مالية محددة، وقد بلغت قيمة التمويل المخصص لهذا البرنامج مليارات الدولارات، ما يؤكد حجم الالتزام الحكومي towards this social safety net.
لضمان دقة التنفيذ، طورت الولايات المتحدة أنظمة متطورة للتحقق من أهلية المستفيدين، بما في ذلك نظام التحقق من الهجرة (SAVE) الذي تستخدمه الوكالات الحكومية للتحقق من وضع الهجرة للأفراد المتقدمين للبرنامج، كما أن التحديثات الدورية للتشريعات، مثل تلك المنشورة في أغسطس 2025، تضمن استمرارية فعالية البرنامج ومواءمته مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية.
نحو شراكة حقيقية
من منظور الدكتور عامر خربوطلي، فإن دور الحكومة لا يقتصر على تقديم المساعدات العينية أو النقدية المباشرة، بل يتعداه إلى تهيئة البيئة المحفزة التي تمكّن الفئات الهشة من المشاركة في النشاط الاقتصادي.
وأشار خربوطلي إلى أن مسؤوليات الحكومة الأساسية تشمل “تبسيط الإجراءات الإدارية، وتوفير المعلومات والبيانات، وتأمين بيئة تمويلية مناسبة”، مع أهمية وجود “أسواق مالية تدعم هذه المشروعات”.
وفي تحليله للاقتصاد الإسلامي كبديل منهجي، يوضح خربوطلي أن النظام الاقتصادي الناجح هو الذي “يحترم هدف الربح والربحية، ولكنه ليس مبنياً على السعي المحموم لتحقيقه”، مؤكداً أن “الاقتصاد الإسلامي ليس نظاماً يعتمد قواعد الشريعة في المعاملات المالية فقط، بل هو اقتصاد أخلاقي قبل أن يكون مادياً”.
هذه الرؤية تتقاطع مع فلسفة برامج الدعم الحكومي التي تهدف إلى تحقيق التوازن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
آليات التطبيق السوري

لتحويل هذه الرؤى إلى واقع ملموس في سوريا، يقترح خربوطلي عدة آليات عملية:
– إنشاء سجل وطني للفئات الهشة: يشمل العاطلين عن العمل والعاملين في القطاع غير المنظم والمتقاعدين ذوي المعاشات الضئيلة، مع تحديثه دورياً بناءً على بيانات دقيقة.
– اعتماد نموذج دعم متعدد القنوات: يشمل دعم الغذاء الأساسي، الدعم الصحي، الدعم في مجال الطاقة والكهرباء، ودعم النقل العام، مع مراعاة الأولويات وفق حاجة كل فئة.
– ربط برامج الدعم ببرامج التمكين الاقتصادي: كتدريب المستفيدين على حرف ومهارات تدرّ دخلاً، أو تمويل مشروعات صغيرة لهم تحت مظلة برامج حاضنات الأعمال التي يشير إليها خربوطلي.
– الاستفادة من أدوات الاقتصاد الإسلامي: كتفعيل دور الزكاة كأداة مالية دورية تعيد توزيع الثروة، وإحياء نظام الوقف كمصدر تمويل مستدام لبرامج الدعم الاجتماعي.
رؤية تتجاوز النموذج التقليدي
في تحليله يقدم الدكتور خربوطلي رؤية للاقتصاد الإسلامي تتجاوز الصورة النمطية للمصارف الإسلامية، مشيراً إلى أنه “أشمل من مجرد تطبيق خدمات المصارف الإسلامية”، فهو نظام اقتصادي “يركز على مفاهيم قيمية أكثر من كونها كمية ومادية ومنها العدالة التي تحفظ الحقوق وتمنع الاستغلال والرحمة التي تراعي واقع الإنسان”.
هذه الرؤية يمكن أن تشكل أساساً فلسفياً لبرامج الدعم الحكومي في سوريا، حيث يجمع النظام بين العدالة في توزيع الثروة والرحمة في التعامل مع الفئات الهشة، دون إغفال لمتطلبات الكفاءة الاقتصادية.
دعم وطني شامل
الخبر الذي استوقف الدكتور خربوطلي حول برنامج SNAP الأميركي ليس مجرد خبر عابر، بل هو إشارة إلى مسار يجب على سوريا السير فيه خلال مرحلة إعادة الإعمار، كما أن تأسيس برنامج وطني للدعم يستهدف الشرائح المجتمعية الأقل حظاً ليس ترفاً، بل ضرورة ملحة للحفاظ على النسيج الاجتماعي ورأس المال البشري.
كما يشير خربوطلي، إن “الشراكة بين القطاعين العام والخاص” يمكن أن تكون إحدى الركائز الأساسية لدعم هذا المسار، مما يخلق “بيئة اقتصادية أكثر مرونة وابتكاراً”.
سوريا التي خرجت من أزمات متتالية لا تحتمل أن يبقى مواطنوها الأكثر فقراً “في مهب الريح”، فالدولة بمؤسساتها هي الضامن الأساسي لكرامة هذا المواطن، بينما تبقى الجمعيات الخيرية شريكاً مكملاً لا بديلاً عن الدور الحكومي.
استثمار الدولة في برامج الدعم الاجتماعي اليوم هو استثمار في مستقبل سوريا الغد، حيث سيصبح الإنسان السوري، المعافى والمتعلم والمدعوم في حاجاته الأساسية، ركيزة أي تنمية حقيقية وشاملة.