تستكمل السيدة الدكتورة نجاح العطار توثيقها للمرحلة الأبهى في العمل الثقافي، إنما ليس من خلال نصوصٍ كتبتها في مناسبات ثقافية كثيرة ومتنوعة – كما كان الحال في سلسلة كتبها الوثائقية السابقة التي بلغت ثماني كتب، أو حولها – بل من خلال نصوصٍ عن رؤيتها للثقافة، وعملها في رحابها، وردت ضمن أجوبة في لقاءات أجرتها معها صحف ووسائل إعلام عربية تخطت الخمسين لقاءً صحفياً وإذاعياً وتلفزيونياً.
قد يكون الكتاب الأحدث، الذي حمل عنوان (ملامح من حياة منذورة للكفاح) هو الأقرب بين كتبها جميعاً لأن يكون مذكرات شخصية، بحكم طبيعة الأسئلة التي وجهها لها محاوروها. ومع أنها مذكرات تنحصر في سنوات مسؤوليتها عن قيادة العمل الثقافي في سورية فإن وصفها بالمذكرات الثرية ليس فيه أدنى جنوح للمبالغة، ذلك أن تلك السنوات هي الأطول في سيرة حياة أي مسؤول ثقافي في العالم، وهي أيضاً – وهذا الأهم – سنوات وفيرة العطاء، لا تزال شواهدها تَمُثل أمام أعين الجميع، وما زال عطاؤها قاعدة العمل الثقافي في سورية، سواء تحدثنا عن البنى التحتية للثقافة التي ارتفعت في تلك الفترة منشأتٍ عملاقةً (مكتبة الأسد الوطنية، دار الأوبرا، المعهدين العاليين للموسيقا والمسرح، عشرات المتاحف والمراكز الثقافية على امتداد الأرض السورية….، أو تحدثنا عن المطبوعات الوفيرة متعددة الاهتمامات التي شكلت إضافة بالغة الأهمية والتوقير للمكتبة العربية، وعن رعاية المبدعين وإبداعهم، وارتقاء النشاط الإبداعي بأوجهه المتنوعة، ومهرجانات المسرح والسينما والأدب والموسيقا والفن التشكيلي.
تفتتح الدكتورة العطار كتابها الصادر عن وزارة الثقافة في خمسمئة وأربع وأربعين صفحة بمقدمة تكثف فيها المناخ العام الذي ساد الفترة التي كلفت خلالها بقيادة العمل الثقافي، كأول وزيرة في سورية، وكيف ساهمت التصورات الاستراتيجية للرئيس حافظ الأسد في منح عملها أفقه وعمقه الرحبين، وفي هذا تقول: (حين اختارني الرئيس الراحل الكبير لأكون أول وزيرة في تاريخ سورية وللثقافة بالتخصيص، ودعاني لمقابلته، كنت أحسب أن هذا اللقاء سيعطيني أن استمع إلى قائد سياسي وعسكري كبير يرسم حدود العمل الذي نشتاق إلى التعرف إليه أكثر فأكثر.. لكن مفاجأتي كانت كبيرة حين بدأ يحدثني عن تصوراته لاستراتجية ثقافية بعيدة الأغوار، وعن إيمانه بأن الرهان على الثقافة يكون، في وجه غزو الثقافات الوطنية، بغية السيطرة عليها) وتسرد الدكتورة العطار بعد ذلك الكثير عن توجهات الرئيس حافظ الأسد الثقافية، وتوجيهاته، مستعيدة، ومستشهدة ببعض أقواله التي توضح هذه التوجهات، والتوجيهات، وفي مقدمتها قوله الأشهر: (الثقافة هي الحاجة العليا للبشرية).
في مطلع التقديم تشير الكاتبة إلى النقلة التي أحدثها القرار غير المألوف، وغير المنتظر، بتسمية وزيرة، في الوطن العربي، للثقافة وليس لشؤون المرأة، أو الشؤون الاجتماعية. وكيف أن كثيراً من المهنئين كانوا يحذرونها من الفشل، لأن ذلك سيعني عودة قضية المرأة إلى الوراء، وإغلاق الأبواب في وجهها، فكانت تقول لهم: (ألم يفشل عددٌ كبيرٌ من الوزراء الرجال؟ ولم يقل أحد أن الرجل قد فشل.. إذا فشلت فسأفشل أنا وحدي وليس المرأة). أما في واقع الحال فإن نجاحها الباهر كوزيرة لم يسهم في حماية قضية المرأة من الارتداد فحسب، وإنما ساهم في دفع هذه القضية للأمام. وأستعيد هنا ما قاله لها صديق حميم حين جاءها مهنئاً بإعادة تكليفها وزيرةً، في حكومة ضمت وزيرتين لأول مرة: (إن المثال الذي جسده عملك كوزيرة أتاح لأن يكون في الحكومة السورية وزيرة ثانية)، واليوم وللسبب ذاته صار مألوفاً أن يضم مجلس الوزراء السوري عدة وزيرات، يشغلن مسؤوليات عدة.
كما حال نصوص الدكتورة العطار دائماً، فإن إجاباتها على الأسئلة الصحفية تمتلك الميزة ذاتها التي تجمع إلى قيمتها المعرفية، والفكرية، قيمة أدبية ساحرة البلاغة والبنيان، وفي ذلك كله لا يغيب الموقف الوطني الأصيل، الذي يمتد ليجعل من كل مناسبة فرصة للتعريف الواعي بقضايانا الوطنية والقومية، ولتصويب التوجه، إن حضور الموقف الوطني في تلك النصوص، وما تضمنه من رؤى وأفكار، ومن مواقف، وفيها الكثير مما قد لا نعرفه، جعل الكتاب يقوم على خلفية تاريخية سياسية، وثقافية، وفكرية، صنعت منه بحق وثيقة تاريخية أمينة بالغة الأهمية. ولا يمكن لهذا الحيز الضيق أن يحيط بأهمية المواضيع الوفيرة والثرية التي تضمنتها إجابات الدكتورة العطار على أسئلة الصحفيين، وقد كانت (الأسئلة) في البداية محاولة للتعرف أكثر على كاتبة قديرة. وسرعان ما صارت منشغلة بحجم المهمة التي نهضت بها هذه الكاتبة والباحثة القديرة، والإنجازات التي حققتها.
لا يمكن لهذا الحيز الضيق أن يحيط بأهمية ما يحكي عنه، وأقصى ما تطمح إليه الكلمات السابقة هو تسليط بعض الضوء على كتاب يمتلك أهمية خاصة لدى المعنيين بالشأن الثقافي. وليس المقصود هنا المعنيين بتاريخ الإنجاز الثقافي، وإنما المعنيون بالسياسة الوطنية حيث تعد الثقافة ركناً أساسياً فيها.
سعد القاسم
www.facebook.com/saad.alkassem
التاريخ: الثلاثاء 28-5-2019
رقم العدد : 16988