السياسة فعل له محدداته وتجلياته وهي فعل اجتماعي يعبر عن علاقة قوى بين طرفين يمارس أحدهما على الآخر نوعاً من السلطة هي سلطة الحكم ومحددات الفعل السياسي بوصفه سلطة تمارس في مجتمع وتجلياته النظرية والتطبيقية الاجتماعية الطابع تشكل بمجموعهما هنا ما يمكن تسميته العقل السياسي أو الثقافة السياسية، فهو ثقافة أو عقل بوصفه يخضع لآليات معينة ومنطق داخلي يحكمه، قوامه مبادئ قابلة للتحليل والوصف وهو سياسي لأن وظيفته ليست إنتاج معرفة بل ممارسة السلطة، أي سلطة الحاكم أو بيان كيفية ممارستها.
إن العقل السياسي في أي حضارة يرتبط بالنظام المعرفي فيها والذي يحكم عملية التفكير بما هو عقل لا بما هو سياسي لجهة إخضاع العقلي لمصلحة السياسي أي إنه براغماتي يستدعي العقلي المعرفي ليوظفه سياسياً، حيث لاحظ علماء النفس أن ثمة سلوكاً يقوم به الفرد دون شعور به، وهو يختلف عن ردود الفعل العادية أطلق عليه اللاشعور السياسي كونه يسعى إلى تحقيق غايات معينة لا تخضع لمراقبة الأنا، وبما أن الأفعال الإرادية خاضعة للشعور والمراقبة فإن الأفعال الأخرى الصادرة دون مراقبة سميت الأفعال اللاشعورية، وقد عزاها سيغموند فرويد إلى الرغبات المكبوتة والدوافع الغريزية، حيث تعبر عن نفسها من خلال الأحلام وفلتات اللسان وغيرها من الأفعال اللاإرادية. وهكذا صار يصنف السلوك الإنساني بأنه سلوك صادر عن الشعور عن وعي وقرار وتصميم وسلوك صادر عن اللاشعور لا تتحكم به إرادة المرء بل يفلت من الرقابة الشعورية رقابة الأنا ليلبي حاجات غريزية ورغبات مدفونه ومكبوتة منذ الطفولة.
ويأتي عالم النفس كارل غوستاف يونغ ليعطي مفهوم اللاشعور أبعاداً أخرى، فالكائن الإنساني عنده عبارة عن مستودع أو وعاء تاريخي أو وعاء من التاريخ فيه جينات عضوية وثقافية وسياسية ودينية تتحرك باللاشعور الجمعي وداخل كل دماغ كاميرا خفية تحفظ كل شيء وتسجل كل شيء دونما شعور منا، فيقول يونغ إن اللاشعور ليس رغبات فردية فقط وإنما أيضاً بقايا نزعات وعوطف جمعية تنتمي إلى ماضي البشرية القريب منه والسحيق وتنتصب على شكل نماذج تشكل نمطاً من اللاشعور المشترك الجمعي وهو رواسب دفينة في النفس البشرية ترجع إلى تجارب وخبرات النوع الإنساني يمتد بعضها إلى الماضي السحيق وحتى ما قبل نزول آدم إلى الأرض فما ورثته النفوس البشرية من تجربة الإنسان الأول في الجنة حيث آدم والخطيئة، وما ورثه الناس من أصلهم الحيواني ومن الإنسان البدائي الأول وما تركته فيهم حياتهم الاجتماعية من العشيرة والقبيلة والأمة، وما ترسب في نفوسهم من خلال تجاربهم الخاصة ونظرتهم للمستقبل كل ذلك يشكل في نظر يونغ اللاشعور الجمعي الذي يتحكم بصورة أو بأخرى في سلوك الفرد وسلوك الجماعة.
وهنا يحضر ويتمظهر اللاشعور السياسي حيث يأخذ طابعاً سياسياً لأي جماعة منظمة سواء أكانت حزباً أم قبيلة أم أمة وهو يختلف عن اللاشعور الجماعي النفسي وفي هذا الجانب يرى عالم الاجتماع والسياسة دوبري أن السياسة ليست انعكاساً للاقتصاد كما ماركس، فالنعرة القبلية العشائرية والتعصب والجهوية والطموح بالحصول على غنائم ومصالح ظواهر تبقى نشطة أو كامنة في كيان الجماعات وليس فقط في نفوس الأفراد لأن اللاشعور السياسي هو شعور جماعي، فالأمر يتعلق بعلاقات سياسية واجتماعية وليس شعوراً فردياً، وبالتالي حتى لو تغيرت القاعدة المادية للإنتاج إقطاعية رأسمالية شيوعية يبقى اللاشعور السياسي الجماعي مستقلاً عنها ووفق دوبري فإن العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الأوربية تقع خلف العلاقات الاقتصادية بينما في المجتمعات ذات نمط الإنتاج الآسيوي فإن العلاقات الاجتماعية ذات الطابع العشائري والقبلي لا تزال تحتل موقعاً متقدماً أساسياً وصريحاً في حياتها السياسية بينما العلاقات الاقتصادية لا تزال غير مهيمنة بشكل أساسي في ذلك من هنا تصبح مهمة اللاشعور السياسي في مجتمعاتنا هي إبراز كل ما هو سياسي في المخيال الديني والقبلي أي الفيزياء الاجتماعية ببنيتها العشائرية والقبلية، وهذا يوصلنا إلى المخيال الاجتماعي المستدعى لا شعورياً وعند تبيئته في مجتمعاتنا العربية، فإنه يشكل ذلك الصرح الخيالي المملوء برأسمالها من البطولات وأنواع المعاناة التي يسكنها عدد كبير من رموز الماضي مثل الشنفرى وامرئ القيس وحسان بن ثابت وحاتم الطائي وعمار بن ياسر وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد والحسين وعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد وألف ليلة وليلة وصلاح الدين والأولياء الصالحين وأبي زيد الهلالي ونزار قباني وأم كلثوم ومحمد مهدي الجواهري، وإلى جانب هذا المخيال العربي والإسلامي الجمعي ثمة المخيلات ما دون وطنية أو قومية تستدعى عند الحاجة بهدف التعبئة حال حدوث صراعات لتكون المغذي المعنوي والدافع للتضحية دفاعاً عن الجماعة حين شعورها أنها مستهدفة بذاتها ولذاتها من هنا يصبح العقل السياسي كممارسة وأيديولوجيا هو في الحالتين ظاهرة جمعية إنما يجد مرجعيته في الخيال الاجتماعي مجالاً للاعتقاد واكتساب القناعات وليس لاكتساب المعرفة فهو هنا جملة الرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي للأيديولوجيا السياسية في فترة تاريخية ما ولجماعة ما بنيتها اللاشعورية إنه يعمل على قاعدة لكل مقام مقال إنه مكيافلية سياسية استدعاء ما يناسب الجماعة ومصالحها وتبيئته وفلسفته واقعاً لا تاريخاً مستدعى كشاهد عصر.
د. خلف المفتاح
التاريخ: الاثنين 9-9-2019
الرقم: 17070