الملحق الثقافي:
يُنظر إلى الرياضيات والفن عموماً على أنهما مختلفان تماماً؛ أحدهما مكرس للفكر التجريدي، والآخر للشعور. لكن في بعض الأحيان يبدو التشابه بين الاثنين ملفتاً وغريباً.
من خلال النظر إلى الفن المعماري الإسلامي وإلى الأنماط الفوضوية لجاكسون بولوك، يمكننا أن نرى أوجه تشابه ملحوظة بين الفن والبحث الرياضي الذي يتبعه. إن وضعي التفكير ليسا متماثلين تماماً، ولكن بطرق مثيرة للاهتمام، غالباً ما يبدو أحدهما يشير إلى الآخر.
هل يحفز الفن في بعض الأحيان الاكتشافات الرياضية؟ لا توجد إجابة بسيطة على هذا السؤال، لكن في بعض الحالات يبدو الأمر مرجحاً للغاية.
لنأخذ نموذجاً قصر الحمراء في غرناطة الإسبانية. في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كان قصر الحمراء بمثابة قصر للملوك. بالنسبة إلى العديد من الزوار، هو مكان فائق الجمال: سلسلة من الساحات المفتوحة ذات النوافير، وتحيط بها الأروقة التي توفر المأوى والظل. الأسقف مقولبة بأشكال هندسية متقنة تشبه الهوابط. الزخرفة الملونة التي تزين جدران القصر المحيطة، تبهر العين بطريقة ساحرة. بطريقة تشبه الموسيقى، ترفع هذه الزخرفات المشاهد إلى حالة خارج جسدية، وهو نوع من النشوة السامية.
إنه انتصار للفن – ومنطق رياضي. تستكشف الزخرفة فرعاً من الرياضيات يُعرف بفن القصور، والذي يسعى إلى ملء المساحة تماماً بأنماط هندسية منتظمة. تظهر الرياضيات أن السطح المستوي يمكن تغطيته بانتظام بأشكال متماثلة بثلاثة وأربعة وستة جوانب. قصر الحمراء يكشف في مجموعات متقنة من هذا النوع، والتي يصعب رؤيتها ثابتة وغير متحركة. يبدو أنها تدور أمام أعيننا. إنها تحفز عقولنا على العمل، ونحن ننظر، نرتب ونعيد ترتيب أنماطها في تكوينات مختلفة.
هل هي تجربة عاطفية؟ بالتأكيد هي كذلك. لكن ما يلفت الانتباه حول مثل هذا القصر هو أن أعمال الفنانين والحرفيين المجهولين تعرض أيضاً إتقاناً شبه مثالي للمنطق الرياضي. حدد علماء الرياضيات 17 نوعاً من التماثل: التماثل الثنائي، التناظر الدوراني وما إلى ذلك. يظهر ما لا يقل عن 16 عملاً من أعمال قصر الحمراء، كما لو كانت مخططات كتابية.
هذه الأنماط ليست جميلة فحسب، ولكنها دقيقة رياضياً أيضاً. يستكشف علماء الرياضيات الخصائص الأساسية للتماثل بطريقة كاملة بشكل مدهش، لكنهم لم يقوموا بتحليلهم لمبادئ التناظر إلا بعد عدة قرون من تركيب بلاط قصر الحمراء.
البلاط شبه البلوري
اكتشف حرفيون مجهولون في ضريح في أصفهان أنماطاً شبه بلورية. هذه الأنماط لها خواص رياضية معقدة وغامضة لم يتم تحليلها من قبل علماء الرياضيات حتى السبعينيات.
تملأ هذه الأنماط مساحة بأشكال منتظمة، ولكن في تكوين لا يعيد نفسه أبداً – في الواقع، لا يكرر بلا حدود – على الرغم من أن الثابت الرياضي المعروف باسم القسم الذهبي يحدث مراراً وتكراراً.
فاز دانيال سكيكتمان بجائزة نوبل لعام 2001 لاكتشافه البلورات، التي تلتزم بقانون التنظيم. أجبر هذا الإنجاز العلماء على إعادة النظر في مفهومهم طبيعة المادة.
في عام 2005، أوضح عالم الفيزياء في جامعة هارفارد بيتر جيمس أنه من الممكن توليد مثل هذه الأنماط شبه البلورية بسهولة نسبية باستخدام بلاطات جيرية. يجمع البلاط الجيري بين عدة أشكال هندسية نقية في خمسة أنماط: عشري منتظم، مسدس غير منتظم، ربطة عنق، وخماسي منتظم.
مهما كانت الطريقة، فمن الواضح أن الأنماط شبه البلورية في أصفهان تم إنشاؤها بواسطة الحرفيين دون تدريب متقدم في الرياضيات. استغرق الأمر عدة قرون أخرى لعلماء الرياضيات لتحليل وتوضيح ما كانوا يفعلون. بمعنى آخر، حدس سبق الفهم الكامل.
الرياضيات غير الإقليدية
مكّن المنظور الهندسي من تصوير العالم المرئي بواقع جديد ودقة، وخلق ثورة فنية في عصر النهضة الإيطالية. يمكن للمرء أن يجادل بأن هذا المنظور أدى أيضاً إلى إعادة فحص كبيرة للقوانين الأساسية للرياضيات.
وفقاً للرياضيات الإقليدية، سيبقى خطان متوازيان متوازيين إلى اللانهاية ولن يلتقيا أبداً. في عصر النهضة، ومع ذلك، فإن الخطوط المتوازية تلتقي في النهاية على مسافة بعيدة فيما يسمى «نقطة التلاشي». وبعبارة أخرى، يقدم منظور عصر النهضة هندسة تتبع قوانين رياضية منتظمة، لكنها غير إقليدية.
عندما ابتكر علماء الرياضيات لأول مرة رياضيات غير إقليدية في أوائل القرن التاسع عشر، تخيلوا عالماً تتلاقى فيه الخطوط المتوازية مع اللانهاية. كانت الهندسة التي قاموا باستكشافها مشابهة، من نواح كثيرة، لمنظور عصر النهضة.
انتقلت الرياضيات غير الإقليدية منذ ذلك الحين لاستكشاف مساحة لها 12 أو 13 بُعداً، بعيداً عن منظور عصر النهضة. لكن الأمر يستحق التساؤل عما إذا كان فن عصر النهضة ربما يكون أسهل في تحقيق هذه القفزة الأولية.
فوضوية بولوك
حالة حديثة مثيرة للاهتمام من الفن الذي كسر الحدود التقليدية – والتي توازيها مع التطورات الأخيرة في الرياضيات – هو الحال مع لوحات جاكسون بولوك.
لأولئك الذين صادفتهم لأول مرة، بدت لوحات بولوك فوضوية ولا معنى لها. مع مرور الوقت، تم التوصل إلى أن فيها عناصر من النظام، ولكن ليس من النوع التقليدي. يمكن التنبؤ بأشكالها في وقت واحد ولا يمكن التنبؤ بها، بطريقة تشبه نمط الماء المتساقط من صنبور. لا توجد طريقة للتنبؤ بالتأثير الدقيق للتقطير التالي. ولكن، إذا قمنا بتخطيط نمط القطرات، نجد أنها تقع داخل منطقة ذات شكل واضح وحدود واضحة.
كانت هذه القدرة على التنبؤ مرة واحدة خارج الحدود بالنسبة إلى علماء الرياضيات. ولكن، في السنوات الأخيرة، أصبح واحداً من أهم مجالات الاستكشاف الرياضي. على سبيل المثال، تستكشف نظرية الفوضى الأنماط التي لا يمكن التنبؤ بها ولكنها تقع ضمن مجموعة محددة من الاحتمالات.
لم يكن لبولوك اهتمام خاص بالرياضيات وموهبة غير معروفة في تلك الساحة. كان افتتانه بهذه الأشكال بديهياً وذاتياً. ومن المثير للاهتمام، أن علماء الرياضيات لم يتمكنوا من وصف دقيق لما كان يفعله بولوك في لوحاته.
ومع ذلك، فإن أنماط بولوك الفوضوية والمنظمة في وقت واحد قد أشارت إلى اتجاه مثمر للرياضيات. في مرحلة ما، قد يكون من الممكن وصف ما كان يفعله بولوك بالأدوات الرياضية، وسيتعين على الفنانين المضي قدماً وتحديد حدود جديدة لاستكشافها.
التاريخ: الثلاثاء22-10-2019
رقم العدد : 970