الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:
كتب أدورنو وزميله هوركهايمر رسالة هامة أثناء حياتهما في المنفى ليتوصلا إلى رؤية تشاؤمية عن الحياة في نظام زائف. كتاب ديالكتيكية التنوير لثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر هو ربما “أهم إصدار لمدرسة فرانكفورت”.
قامت مدرسة فرانكفورت مجتمعة بتطوير نظرياتها في عالم دمرته الحرب العالمية الأولى. جمهورية ويمر(1) شكلت صدمة نفسية خطيرة للمجتمع حين تحطمت العديد من اليقينيات القديمة إلى أشلاء متناثرة. وما هو أسوأ من ذلك، أنه لم يبرز أي شيء من بين ذلك الحطام ليعطي الناس أملاً في المستقبل.
عندما فشلت الديمقراطية الليبرالية وتحولت ويمر إلى نازية، اضطر جميع أعضاء هذه المدرسة وهم من المثقفين الماركسيين إلى الهروب خارج البلاد التي تحوّل ضدهم لأسباب عنصرية وسياسية. أحد أهم أعضائها البارزين ولتر بنيامين، قتل نفسه عام 1940 على الحدود الإسبانية الفرنسية، وهو الحادث الذي ترك باقي الأعضاء في كآبة شديدة.
وبعد أن غيّروا بلدهم أكثر مما غيروا أحذيتهم كما يقول برتولد بريخت، انتهى بهم الحال في الولايات المتحدة أثناء سنوات هتلر، ورغم أن هذا كان ملاذاً لهم، لكنه ليس المجتمع الذي يوفر الإنسانية. إرنست بلوتش وصف الولايات المتحدة بـ “طريق مسدود مضاء بالنيون” وهم شعروا أن المجتمع الملزم للسعي وراء السعادة الفردية، كان مثالاً لعالم من الضحالة والنفاق واللاأصالة.
في واحدة من أهم حكايات أدورنو الشهيرة في Minima Moralia (2) التي نشرها عام 1951 يقول إنه من غير الممكن أن تعيش حياة حقيقية في نظام زائف. الشيء الأكثر أهمية في هذا النص، أن المفكرين من مدرسة فرانكفورت لم يميزوا كثيراً بين مختلف أشكال الرأسمالية سواء ديمقراطيات استهلاكية كانت أم ديكتاتوريات فاشية. ورغم أن السطح الظاهر للآليات الظالمة كان مختلفاً بشكل واضح، لكن بالنسبة إليهم كانت القاعدة الأساسية لرأس المال هي ذاتها.
ديالكتيكية التنوير يصل إلى رؤية متشائمة حول ما يمكن القيام به ضد نظام زائف، والذي، من خلال “صناعة الثقافة”، يخلق باستمرار وعياً زائفاً حول العالم الذي حولنا، مرتكزاً على الأساطير والتحريفات التي انتشرت بقصد لمنفعة الطبقة الحاكمة.
هذا بالطبع ليس غريباً على الرأسمالية، ولكن الرأسمالية تتخذ شكلها السلعي الكامل لكي نصبح مستهلكين راغبين ومنتجين للاغتراب. بالنسبة إلى أدورنو وهوركهايمر، الثقافة الأصيلة لا تتساوى ببساطة مع الثقافة العالية، والتي هي سلعية بنفس المقدار. الثقافة الأصيلة تقاوم بشكل مباشر التسليع وتعاقب المشاهدين بسبب توقعاتهم للترفيه.
وبالاعتماد على نظرية الديالكتيك السلبي، تجادل ديالكتيكية التنوير بأن قيم التنوير ذاتها ليست تقدمية بشكل أوتوماتيكي، وأن عملية التحرير المحتملة للحرية الإنسانية كما عرضها هيغل وماركس، جرى إضعافها باستعبادنا ضمن شمولية العلاقات الاجتماعية الرأسمالية.
رؤيتهم هي أن الفاشية والستالينية ورأسمالية المستهلك كلها أنتجت الانتشار الواسع للأنماط الاجتماعية لوسائل الإنتاج وتوسيع نطاق الشركات مع دور مركزي للدولة.
هذا الالتقاء ترافق مع أسوأ استغلال للطبقة واستبدلها بنوع من التواطؤ الاجتماعي بين الطبقات بالرجوع إلى الميثولوجيا والسيطرة الأيديولوجية.
السيطرة تمت ليس فقط عبر القمع المباشر، وإنما من خلال مظاهر غير أيديولوجية لحياتنا اليومية، وخاصة الطرق التي تشجع بها الحداثة على إنجاز ومتابعة الرغبات بدلاً من سحقها أو السيطرة عليها. هنا، جاءت السادية إلى جانب نيتشه لإظهار كيف أدّت الحداثة والتنوير إلى إعادة تقييم منظومة القيم وأضعفت كل التقاليد. ماركس أيضاً لاحظ أن الرأسمالية قادت إلى أن (كل ما هو متماسك تبخر في الهواء). إن ما حصل من سوء فهم في هذه المسألة، هو أن مدرسة فرانكفورت لم تكن السبب في الانهيار الظاهر للقيم الاجتماعية، وإنما كانت تجذب الانتباه للطريقة التي كانت بها الرأسمالية وبإصرار تحطم اليقينيات القديمة.
في قسم اللاّسامية هما يوضحان الطرق التي استُعملت بها الأساطير من جانب كل من الفاشية والليبرالية الديمقراطية لخلق جماعة خارجية يمكن إلقاء اللوم عليها لكل المشاكل. هذا بلغ ذروته في النظرية النازية بأن العالم خضع لمؤامرة لكي يسيطر رأس المال على القيم الإنتاجية التقليدية الجيدة.
فرويد دخل في اللعبة هنا بالقول إن كراهية الآخر، هي في الحقيقة طريقة لإخفاء الغيرة عما لديهم، ليس بالنسبة إلى الثروة، وإنما في تقاليدهم الجمعية الظاهرة والتماسك الاجتماعي، الذي حافظوا عليه، بينما الأمة المضيفة تتآكل من حولهم. الفاشية هكذا نجحت ليس بسبب قمعها، وإنما لأنها تجيز وتشجع رغباتنا العميقة لإيجاد سبب لاشتراكنا أو قبولنا الخطأ.
…..
الهوامش
(1) جمهورية ويمر هو الاسم التاريخي اللارسمي للدولة الألمانية من 1918-1933. الاسم مشتق من مدينة ويمر التي عُقد فيها اجتماع الجمعية الدستورية أول مرة، أما الاسم الرسمي للجمهورية (جمهورية الرايخ) بقي لم يتغير منذ عام 1871. بعد أن عقدت الجمعية الوطنية اجتماعها في ويمر كُتب دستور جديد وجرى تبنّيه في 11 آب/ أغسطس عام 1919. وطوال سنواتها الـ 14 واجهت جمهورية ويمر مشاكل هائلة بما فيها التضخم المتسارع، التطرف السياسي (لكلا جناحي اليمين واليسار تدعمهما قوى مسلحة) بالإضافة إلى العلاقات الشائكة مع المنتصرين في الحرب العالمية الأولى. الاستياء في ألمانيا تجاه معاهدة فرساي بدأ يتصاعد خاصة في جناح اليمين؛ حيث هناك غضب شديد تجاه أولئك الذين وقّعوا على المعاهدة وخضعوا لشروطها، لكن جمهورية ويمر لبّت معظم شروط المعاهدة. ومنذ عام 1930 فصاعداً، استعمل الرئيس هندبيرغ قانون الطوارئ لدعم المستشارين. الكساد الكبير المتزايد في ظل سياسة الانكماش قاد إلى ارتفاع حدة البطالة. في عام 1933 قام هندبيرغ بتعيين أدولف هتلر مستشاراً للدولة وجعل حزبه النازي جزءاً من ائتلاف الحكومة؛ حيث استلم النازيون مقعدين من مجموع المقاعد الوزارية العشرة للحكومة. وخلال أشهر، تم فرض حالة الطوارئ وفقاً لقانون تفويض السلطات لعام 1933. وهنا تم إلغاء تام للحكومة الدستورية والحريات المدنية مع سيطرة هتلر التامة على الحكومة. هذه الأحداث وضعت حداً لجمهورية ويمر؛ حيث انهارت الديمقراطية، وبدأ عصر جديد للديكتاتورية النازية بتأسيس دولة الحزب الواحد.
(2) minima moralia هو عنوان كتاب للفيلسوف ثيودور أدورنو نُشر عام 1951. أدورنو بدأ في كتابة الكتاب أثناء الحرب العالمية الثانية حين كان يعيش في المنفى في أمريكا، ثم أكمل الكتاب عام 1949. عنوان الكتاب مشتق من Magna Moralia وهو كتاب في الأخلاق يعود تقليدياً لأرسطو. في مقدمة الكتاب رسالة عن الموضوع الذي يهتم به الكتاب، وهو “تعليم الحياة الجيدة”، وهي الفكرة المركزية في الأصول اليونانية للفلسفة الغربية. في أواسط القرن العشرين يؤكد أدورنو أن الحياة الجيدة والنزيهة لم تعد ممكنة، لأننا نعيش في مجتمع لاإنساني. في بداية الكتاب يضع أدورنو عبارة أن “الحياة لا تُعاش”. يوضح الكاتب هذا في سلسلة من الكتابات القصيرة والأمثال التي تتوزع على طول الكتاب منتقلاً من الممارسات اليومية إلى المعالم المقلقة للنزعات العامة للمجتمع الصناعي. المواضيع تضمنت الطبيعة التدميرية للألعاب، حالات اليأس والإحباط على مستوى العائلة، عدم حقيقة ما هو حقيقي، تآكل الحوار، تصاعد الإيمان الماورائي. يبيّن أدورنو كيف أن تغيرات بسيطة في السلوك اليومي، تنعكس في العلاقة مع الأحداث الكارثية للقرن العشرين.
التاريخ: الثلاثاء14-1-2020
رقم العدد : 982