ثمة حالة تمرد حدثت في كابول اعتراضاً على الاتفاق بين الولايات المتحدة وحركة طالبان أخمد في مهده، وتوجب على واشنطن التنبه إلى أن مكمن الخطر على إحلال السلام في أفغانستان يتأتى من مصدر أساسي ألا وهو أصحاب المصالح الذين يستأثرون بمراكز الدولة ويتأففون من أعباء السلطة، كما أن عزل القبائل في كابول عن أجواء التقسيم المحبطة في البلاد أصبح عسيراً، ووحدها الولايات المتحدة فقط من يستطيع فعل ذلك.
ويحضرني استعارة استخدمها بيتر تومسون، المبعوث الخاص للرئيس رونالد ريغان إلى أفغانستان خلال الوجود السوفييتي هناك في ثمانينيات القرن الماضي، السفير تومسون الذي فقد الأمل بعد الجهود المضنية التي بذلها لصياغة اتفاق بين جماعات (المجاهدين) المتنازعة فيما بينها وهي(سبع جماعات في بيشاور)، وإن كان انسحاب السوفييت بات وشيكاً، صرح بالقول: بعد كل الجهود اتضح أنها كانت بمثابة محاولة عبثية لجمع ضفادع على سلم، ما إن تضع واحدة على درجات هذا السلم، حتى تقفز الأخرى، وهكذا دواليك.
فمنذ توقيع الاتفاق الأميركي- الطالباني في الدوحة في 29 شباط المنصرم، وثب الرئيس الأفغاني أشرف غاني عن درجات السلم الذي وضعه الممثل الأميركي الخاص للمصالحة الأفغانية زلماي خليل زاد بعد أشهر من محاولات الإقناع .
لقد فجر غاني مفاجئة عند إعلانه أنه يرفض المصادقة على إطلاق سراح سجناء طالبان، وهو مطلب طالبان الأساسي خلال مفاوضات الدوحة والمدون في الوثيقة الموقعة في 29 شباط.
في الواقع كان غاني قد أرسل إلى الدوحة مسؤولين سياسيين من كابول التقوا طالبان وناقشوا شروط إطلاق سراح السجناء، لكنه ما لبث أن بدل رأيه وانقلب على الاتفاق.
وفي تقدير غاني أن انقلابه المفاجئ على اتفاق إطلاق سراح سجناء طالبان يمكن أن يشكل عامل خرق للاتفاق الذي من شأنه أن يعطل الحوار داخل طالبان نفسها والمتوقع أن يبدأ هذا الشهر.
غاني كان متقلب المزاج، وقد دفعه إلى ذلك أتباعه من التيار المتشدد في قبيلته، وقد نجحوا إلى حد كبير، وكان رد طالبان بأن أوقفوا العمل باتفاق خفض العنف، وعلى إثرها تجددت المعارك كما كان متوقعاً، والقوات الحكومية الأفغانية العاجزة عن مقاومة هجوم طالبان، سعت للحصول على غطاء جوي أميركي، ما أدى إلى شن هجمات جوية أميركية ضد المتمردين.
المنددون بالاتفاق بين الولايات المتحدة وطالبان في الخارج سرعان ما أعلنوا فرحتهم بتجدد المواجهات بين طالبان والولايات المتحدة، وأن ميثاق الدوحة انهار بعد ثلاثة أيام من توقيعه.
في أثناء ذلك، دعا الرئيس ترامب الملا عبد الغاني برادار زعيم طالبان الحالي، والذي قاد مفاوضات الدوحة مع خليل زاد إلى بناء الثقة المتبادلة بين الطرفين، والأمر يتعلق إلى حد كبير بإشارة رمزية أرسلت إلى كابول والتي كان لها الأثر الحاسم في وقتها.
حقيقة الأمر، أنه وبعد اتفاق الدوحة جرى إيجاد صيغة تفاهم متبادل توصلوا إليه بعد جهد جهيد بين الولايات المتحدة وطالبان خلال الأشهر الماضية وبدعم من باكستان، لكن ترامب أعاقه.
وبعد جلسات تمت بين الجانبين، أكد ترامب لطالبان أن وزير خارجيته مايك بومبيو سيتدخل لدى غاني وسيتم إطلاق سراح السجناء كما تعهدت الولايات المتحدة بذلك، وأن واشنطن تتوقع أن تفي طالبان بالتزامها (خفض وتيرة العنف).
ومنذ إعراب ترامب عن ثقته بخفض وتيرة العنف، واصلت واشنطن وبكل وضوح الإشادة بالدور البناء الذي تلعبه باكستان التي أصبحت عنصراً أساسياً في عملية السلام .
مع تراجع حرب الأعصاب المرتبطة مباشرة بكراهية غاني للحوار الداخلي الأفغاني، والذي طبقاً لكلامه، فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى تشكيل حكومة مؤقتة في المستقبل القريب، ما سيدفع به إلى التخلي عن منصبه، فالولايات المتحدة لم تبارك له فوزه في الانتخابات الرئاسية المزورة، وعليه جرى تأجيل مراسم أداء القسم.
ما نراه اليوم مزيج غريب من الشخصيات تضم معارضة أفغانية للرئيس غاني (ليست طالبانية)، كما أن قبيلة غاني تنتظر بفارغ الصبر الحوار الداخلي الأفغاني والمصالحة مع طالبان دعماً للاتفاق الأميركي الأفغاني وعملية السلام المأمولة، بينما غاني وقبيلته قوضوا عملية السلام برمتها والتي جرى التوصل إليها مع خليل زاد بشق الأنفس.
أما غاني فينتظر اللحظة المناسبة، ويأمل أن تكون المصالحة الأفغانية موضوع جدل في الحملة الرئاسية الأميركية القادمة، ويتطلع للحصول على دعم الديمقراطيين الذين يميلون إلى طرح أولوية قضية حقوق الإنسان في أي اتفاق مع طالبان، لكن من غير المتوقع أن يتساهل ترامب مع أي عملية احتيال سياسي تصدر عن غاني.
غاني ذهب في أحلامه بعيداً، فالحقيقة أن نظامه لا يلقى أي دعم شعبي من جانب الأفغان الذين يعتبرونه صنيعة الأميركيين، ولهذا تعلم المجتمع الدولي دائماً التعايش معه، كما أن رجاله المأجورين لا يتمتعون بأي قاعدة سياسية, وهو نفسه لا يحظى بأي قاعدة سياسية بين قبائل البشتون، وفيما يخص أمر الله صالح فهو لا ينتمي إلى أي فصيل أفغاني ويمثل بالنسبة للأميركيين ضابط استخبارات فحسب، أما في بانشير المحسوب عليها نظرياً، فلا يعتبرونه خلفاً لأحمد شاه مسعود، تلكم هي الحقائق المرة التي يجب أن ندركها تماماً.
الواضح أن التهديد الأساسي الذي يخيم على عملية السلام يأتي من الفصيل الأفغاني المناهض لحكومة غاني، وقد آن الأوان ليبدي الأميركيون شجاعة ويوضحوا لهم القانون المضاد للفتنة، ففي مقابلة أجراها المحرر الصحفي الخاص بريت باير في 2 آذار الحالي ألمح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى أن واشنطن تستعد للقيام بذلك، وأن خليل زاد عائد إلى كابول.
أما تدخل الرئيس ترامب شخصياً لدى زعماء طالبان على أعلى مستوى فيشير إلى أن الأمر يتعلق بتطمينات خارجية قدمت لإدارته والتي يعلق عليها أهمية كبرى، وهو أفضل ضمان لنجاح الاتفاق .
عن: موندياليزاسيون
ترجمة: حسن حسن
التاريخ: الخميس 12 – 3 – 2020
رقم العدد : 17215