في أواخر تسعينات القرن الماضي، أتاح لي الباحث المهندس عبد الرحمن قرنفلة، فرصة مرافقته بمهمة ميدانية جميلة في ربوع بادية الشام، وكان حينها مسؤولاً في وزارة الزراعة عن مشروعٍ يختصّ بالعناية بالثروة الغنمية، وزيادة إخصابها وتكاثرها عبر آلياتٍ وطرائق صناعية حديثة تساهم في زيادة مواليد الأغنام، حيث جرى اختيار العديد من المربين في أنحاء متباعدة من بوادي حلب وحماه والرقة ودير الزور، وقد احتاجت مهمتنا عدة أيامٍ لإنجازها.
ما زلتُ أذكر كم كان يشعر بسعادةٍ غامرة وهو يستمع إلى أحاديث المربين كيف أنّ أغنامهم باتت تلدُ ثلاثة أو أربعة مواليد ذكوراً وإناثاً في الموسم الواحد، وتبقى مع الأمهات بصحة جيدة، فهذه الوقائع كانت هي الدلائل المؤكدة لنجاح المشروع، كما أنها هي الأمل الكبير للوصول إلى ثروةٍ غنمية باهرة لكل أبناء سورية، فالأغنام -كان يقول -كمناجم الذهب والنفط.
أثناء تنقلنا من مكانٍ إلى مكان قاصدين المربين الذين ينفذون هذه التجربة، كنا نحتاج إلى وقتٍ طويل لنقطع مسافات شاسعة استطاع وببراعة أن يُبعد عني أي شعور بالملل عند قطع تلك المسافات، من خلال أحاديث شيّقة كانت زراعية في أغلبها، وقد شكّلت عندي رصيداً من المعلومات الهامة والمفيدة، التي ما زلت أستثمرها بين وقت وآخر، فقد علمت من خلال تلك الأحاديث سرّ غنم ( العواس السوري ) بأنه يمتاز عن غيره من مختلف أنواع الغنم بوجود شعيراتٍ دهنية تتغلغل في جسده بالكامل، وهذا سرّ النكهة الفاخرة التي يمتاز بها لحمه ولا سيما عند الشواء، وهذا ما جعله الصنف الأفضل على مستوى العالم.
أيضاً علمتُ أن الدولة تحمي البادية بأسرها وتمنع أي أحد من زراعة شبرٍ فيها كرمى لعيون المربين كي تنمو المراعي لتغذية أغنامهم، حتى المربين أنفسهم لا يستطيعون زراعتها، وقد شكا لنا ذلك مربون من بلدةٍ اسمها ( كباجب ) في ريف دير الزور، وتمنّوا علينا إيصال صوتهم بأن يسمحوا لهم بزراعة مساحات بسيطة حول ديارهم، ولكنني علمت أن هذا من المحرمات عندنا، فالبادية محمية بالكامل لدعم الأغنام والثروة الحيوانية.
اليوم أقول بملء الصوت – وعلى الملأ – ازرعوا البادية، فالكثير من المربين لم يعودوا أهلاً للعناية ولا للرعاية والحماية بعد أن استهانوا بوطنهم، وفسد الكثير منهم، وراحوا يهربون ثروة البلاد من الأغنام، تاركين أسواقنا تُكابد من الأسعار المشتعلة، فلماذا نترك البادية بأراضيها الخصبة، وباطنها مليء بالمياه، في الوقت الذي يعاني فيه مئات آلاف السوريين من البحث عن فرصة عملٍ ولا يجدونها..؟! لماذا لا نوزع أراضي البادية لكل من يبدي استعداداً للزراعة، وليزرع فيها القمح والخضار وأي شيء ..؟! إنها اليوم كخزّان غذائي فارغ بلا جدوى، ونحن نحتاج لمن يزرع ويُنتج .. لا لمن يُهرّب .. ويستهين بالبلد واقتصاده.
على الملأ – علي محمود جديد