ربما لم نعش الطفولة التي كنا نحلم بها يوماً ما، لأسباب كثيرة جداً، أولها الفقر وضيق مساحات الفراغ التي يجب أن تتوافر للأمر، دخلنا معترك الحياة مذ استطاعت اليدان أن تمسكا بقبضة المعول أو المنجل، وفي أقل الأحيان أن تمسكا عصا الراعي لننطلق وراء الأبقار نسوقها إلى الوديان حيث المراعي، كانت طفولة العمل غير القاهر للبراءة، عمل الأسرة التي لم تكن تعرف معنى الدولار، ولا معنى أن ترتفع الأسعار كل ساعة، لأنها ببساطة تلبي معظم احتياجتها مما تزرع وتصنع.
يعبر شريط الذكريات هذه، ليس حنيناً إلى ما كان مع جمالياته البهية، لأنني لست ممن يقفون على أطلال الماضي يبكونه، فلكل مرحلة من العمر جمالها، وسحرها الخاص، إنما استدعى ذلك الجلسة اليومية مع حفيدتيّ (مريم ومايا) وقد استخدمت لهما لقب (المريمين) على شرفة المنزل يومياً عند المغيب لابدّ من جلسة ما، تبدأ بشقاوة مايا التي تصرخ بي: جدو لقد ألّفت لك شعراً، وتهمس بكلمات، وتمضي إلى مريم التي تلحّ بكل الشغف على معرفة من ألف كتب الصف الثالث الابتدائي وتردف بجملة: إنه..
في لحظة فارقة لا أدري كيف، كانت عيناهما مسمرتين على الشارع الرئيس، صمت رهيب لدقائق، حانت التفاتة مني إليهما: النظر متسمر على شاب في مقتبل العمر، يمشي مع مجموعة من رفاقه، يتوكأ العكاز، الضحكة تملأ الشارع، الصوت يكاد يصل إلينا، ترنو المريمان بحنان وخوف، جدو: أين رجله؟ لماذا ليس له إلا رجل واحدة ؟
صمت قليلاً، أعرف هذا الشاب الذي أصيب في معارك الشرف والدفاع عن وجودنا، أجيب: جدو.. هذا الشاب بطل من أبطال الجيش كان يحارب المسلحين ليحمينا، ترد المريمان (الله يحميه) لتردف إحداهن (المسلحين كلبين وسخين الله لازم يعاقبهم..).
بلهجة الطفولة تفور العواطف: جدو احك معه، (خليه يوقف عنده، وروح وصله بالسيارة، حرام يا جدو، عجل جدو..).
خطر ببالي أن أفعل ذلك، لكن سيارة تعبر بقربه توقفت، أظن أنه دعاه للصعود، لكن الحديث يشي أنه قال لصاحب الدعوة: إني مسرور مع أصدقائي، سنكمل مشياً، لتفاجآني المريمان باللحظة نفسها بسؤال: جدو، أين وضعوا رجله التي بترت؟
آه، ما أقسى السؤال، ما أعمقه، ما أوسع الجرح، جدو: في كل شبر من سورية قطعة من فلذات الأكباد، هنا شلو من قلب، وهنا يد، وهنا دم، وعطر، ما من حبة تراب كما قال أبو ريشة إلا وقد عطرت بدِما حر أبي..
جدو: لقد غرسها حيث بترت، ستغدو شجرة، ستكبر، ستنمو، ستنجب أبطالاً، لقد غدت راية عالية خفاقة أبية، جدو: نحن رجلاه وقدماه، كل سوري مدين له ولرفاقه، سورية ليس خيالاً ولا وهماً، مسيجة بأجساد من ارتقوا، ومن مازالوا يقبضون على الزناد.
تعبر بي صرخة الطفولة في عدرا: سأقول لله كل شيء، صرخة الطفل الذي تم شواؤه في فرن أحقادهم، ليتردد صدى الصرخة نفسها في بيت سحم، أو ببيلا، لا أدري: الطفل يصرخ بوجه قاتليه: عمو لدي مطمورة ودراجة.. خذهما ولا تقتلني أنا وإخوتي، وأمي..
وبعد: هل من شرفة في الكون تتسع لأكثر من هذا الألم، كيف تطاق حيواتنا لولا الطفولة؟.
معاً على الطريق – بقلم أمين التحرير ديب علي حسن