الثورة أون لاين-ناظم مهنا:
إنَّ موت شاعرٍ حدثٌ كبيرٌ، وبندر عبد الحميد كان يعيش بيننا كشاعر وفنان. كان حضوره دائماً في قلب العاصمة، يتحرّك في دائرة ضيقة في طريقه إلى العمل، أو إلى البيت، وفي بحثه
الشغوف عن المزيد من الأصحاب. هو رجل صداقة ومودة عارمة، وأصدقاء بندر كثر،ومعارفه لا يمكن إحصاؤهم.
انتهت حياة بندر عبد الحميد، وهذه خسارة كبيرة للحياة الثقافية العربية، لم يكن رجلاً يبحث عن مجد أو عن شهرة، كانت الحياة المرحة مع الأسرة والأصحاب بالنسبة إليه الغاية والهدف،
وكل شيء آخر يأتي تالياً. هذا الكائن الراقص، يضحك ولا يقهقه، يحتفي بالأصدقاء، وهو رجل جامع، يجتمع في غرفته المتوافقون والمختلفون، من أماكن شتى؛ سوريون وعرب وغير
عرب. كان بندر لطيفاً مع الناس، يصغي أكثر مما يتكلم، وكان عميقاً وواسع المعرفة، رجل ثقافة وصانع ثقافة، يعمل بصمت ورفعة وإباء، ولم يكن يشكو لأحد، وأعتقد أنّه كان يخفي آلامه.
في مرحلة الحرب التقيته بضع مرات، كان متعباً وحزيناً إلا أن هذا لم يؤثر في حفاوته، ولم تختفِ ابتسامته المشعّة. لم يكن يتباهى بشيء، ولو أراد أن يتباهى لحقَّ له أكثر من غيره،
وفي أمور كثيرة ليس أقلها الصداقات التي بحجم العالم. بيته الصغير، الذي خصصه للأصدقاء كان مفتوحاً دائماً، وفي أحيانٍ يجد فيه أشخاصاً لم يلقهم من قبل، وفي غرفته يتعارف الناس
وقد يتصاحبون أو يتشاجرون. إنه شخص حاتميّ، أرجِّح أنَّه من سلالة الطائيين، الجود فيه طبع لا تشوبه شائبة. مع ضيوفه العرب والقادمين من المحافظات يتصرف كمؤسسة في الترحيب والاستضافة والاهتمام والمتابعة، وعلى الرغم من ضيق الحال كان يبتكر الحلول، ولم يتوانَ لحظة في بثِّ النّبضات الطيّبة والمشرقة عن الحياة الثقافية السورية، ولو اقتدى مثقفونا
بهذه السيرة (البندرية) التي ترسخ قرابة الفكر لكانت حياتنا الثقافية أكثر إشعاعاً.
لم يكن بندر مجادلاً مماحكاً، بل كان يتقن فن الإصغاء، وكان صاحب رأي يقوله بتهذيب وتهيب، وكان يحب المفارقات في الحياة، يؤثر كل ما هو مدهش في الطبيعة وفي الإبداع الإنساني والمواقف الوجودية والنساء المتمردات، وهو من الشغوفين بالسينما كما شغفه
بالشعر، صاحب ذاكرة حافلة بالأحداث والأخبار، ولو دوّنها أو أطلق ذاكرته لكانت جديرة بأن
تُسمَع أو تُقرَأ، ولكن قلّما كان بندر يستذكر طفولته مع الناس أو مسقط رأسه أو يستعيد سيرة صباه، لم يكن يعيش بندر الحديث على الذكريات، بل يعيش اللحظة بكل امتلاء، وربما كانت
طريقته هذه قناعاً يخفي آلامه الشخصية. قد يلومني الأصدقاء أنني أكتب عن الراحلين،
والحقيقة أنني في ظهر اليوم الذي رحل فيه الصديق الكبير بندر كنت في دار التكوين، وطلبت من الصديق المشترك الشاعر والناشر سامي أحمد أشعار بندر كي أكتب تحيةً لهذا الشاعر
الباذخ، أعبر فيها عن تقديري له كشاعر وإنسان استثنائيّ، وهو من أقرب الأصدقاء إلى قلبي،
إلا أن سامي أخبرني أنها لم تُطبَع بعد، وفي صباح اليوم التالي نزل عليَّ خبر رحيله كالصاعقة.
رحل الشاعر المحتفل بالوجود، صاحب مجموعة «الاحتفالات» ومجموعات شعرية كثيرة،وكُتُبٍ في مجالات متنوعة. رحل البدوي الكوني، وهنا كلمة بدوي وعالمي تليق بهذا الرجل الشاعر. وأعتقد ما من مثّقفٍ حقيقي في العالم، لا يوجد فيه شيء من البدائية والبداوة،
والشاعر الحق، هو الذي تتناغم فيه النقائض وتجعله أكثر إشعاعاً، وعمقاً في الحضور، وهذا ما كان يتحقّق مع بندر الذي يجتمع فيه قلق البدائي والبدوي، ورغبته في الاكتشاف والترحال،
وعمق الإنسان الحديث، وطريقة العيش المعاصر.
على هذا الشاعر الراحل الذي خسرناه، نعلن حزناً طويلاً لهذا الفقدان، وكانت شاعرة سورية راحلة، قد أعلنت عليه الحب بمجموعة قصائد مطبوعة منذ ثمانينيات القرن الماضي.
من الصعب أن ننسى بندر عبد الحميد، وأعتقد لن تنساه دمشق لأنه أحدُ تجلياتها.