من خلال قراءة المشهد الصراعي الدولي في الوقت الحاضر تبرز قيمة البحار والمحيطات أساسيةً في الجغرافية السياسية، ليس بوصفها ممرات للتجارة العالمية فحسب، وإنما لما تحتويه قيعانها من ثروات باطنية، ولاسيما البترول والغاز عصبا الحياة، ولعل ما تشهده منطقة المتوسط والبحر الأسود وقبل ذلك جنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي والرغبة في السيطرة على الممرات البحرية وهي إشكالية تاريخية، كل ذلك يبرز أهمية ما أصبح يطلق عليه راهناً الوطن الأزرق، وهو مصطلح جديد، دخل القاموس السياسي والإعلامي وأدمج في الخطاب السياسي عند بعض الساسة ولاسيما الأتراك، وفحوى ذلك المصطلح أن الأوطان والدول بالمعنى القانوني والسيادي لم تعد فقط تلك الجغرافية اليابسة المحددة في الخرائط المعترف عليها، وإنما جغرافية ممتدة في عمق البحار، متجاوزة ما يسمى المياه الإقليمية، لتشكل وفق ذلك المصطلح جغرافية سائلة وهلامية متحركة كأمواج البحر، وحيث تخبئ أعماق البحار ثروات هائلة يسيل لها لعاب الطامحين في بناء أو تحصين اقتصادات واعدة في ظل حاجة متزايدة لعناصر الطاقة.
لقد أثار هذا المصطلح العديد من علامات الاستفهام ولاسيما أن الساسة الأتراك قد استعملوه مؤخراً لجهة الاستفادة والسيطرة أو حيازة الحصة الكبرى من مخزون الغاز والبترول المكتشفة شرقي المتوسط ومؤخراً في البحر الأسود، حيث بشر أردوغان مناصريه بثلاثمئة مليار متر مكعب من الغاز في تلك المنطقة البحرية ومهدداً على الضفة الأخرى اليونان وغيرها من دول حوض شرق المتوسط (بالإزالة) حال عرقلتها طموحاته في السيطرة على أكبر مساحة مما أطلق عليه المجال الحيوي التركي في المتوسط، وصولاً إلى الساحل الليبي، ولكي يضفي على هذا المفهوم شرعية ما جاءت التسمية أو مصطلح الوطن الأزرق ليكرس وينقل فكرة السيادة على الإقليم من الجغرافية اليابسة إلى ما يمكن تسميته جغرافية مائية، هي استمرار وامتداد لها، ويصبح الدفاع عنها وحمايتها جزءاً من الدفاع عن سيادة الدولة بمفهومها التاريخي وفق معاهدة وتسفاليا عام 1648 وما أعقبها من تشكل الدولة الوطنية والقومية، وهو ما تضمنه أيضاً ميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 1945.
إن أخطر ما يشكله طرح هذا المفهوم هو أنه سيطلق العنان لصراعات لا تنتهي برزت على السطح إرهاصاتها الأولى في الفترة الأخيرة عند الحديث عن الكميات الهائلة من حقول الغاز والبترول شرق المتوسط ومحاولة تركيا الاستحواذ على الحصة الكبرى منها استثماراً في فائض قوتها والتراخي الإقليمي والدولي في مواجهتها واقتصاره على التهديد والتحذير من العواقب والمخاطر التي لم تكترث بها الحكومة التركية بدليل استمرار سفنها وأسطولها البحري التنقيب في البحار وتكريس أمر واقع يصبح من الصعب تغييره مستقبلاً، إلا عبر معطى القوة الذي يبدو أنه خيار صعب في ظل استعراض العضلات العسكرية لأكبر ثاني قوة عسكرية في حلف الناتو وصاحبة أقوى أسطول بعد جمهورية مصر العربية التي تبدو من بين أبرز المستهدفين من الاندفاعة العثمانية الإخوانية الجديدة.
إضاءات – د خلف المفتاح