في المنعطفات التاريخية تكون للأفكار قيمة إضافية وربما كانت سفينة نجاة للأمة في استبصار المستقبل من هنا تأتي أهمية طرح أفكار لتكون مخارج وبدايات لمسارات جديدة في التاريخ، فالحديث يجب ألا يتمحور حول تأريخ للنكبة بقدر ما هو قراءة نقدية لها ورؤية لمستقبل الصراع العربي الصهيوني ومآلاته؟
إن الانطلاق من حقيقة أن قضية فلسطين هي قضية تحرر وطني وليس نزاعاً على أرض بين اليهود والفلسطينيين فهذا يمنحها أحد أهم أوراقها وهو الورقة الدولية وبعديها العربي والإسلامي، ولعل أخطر ما في قرار التقسيم أنه اعتبر القضية الفلسطينية قضية تقاسم أراض وليس احتلالاً ليشرعن ذلك الكيان، علماً أن القرار نفسه -وهذه مسألة مهمة- أشار إلى أرض فلسطين ولم يقل شيئاً آخر، وهذا اعتراف ضمني بأنها أرض فلسطين وشعب فلسطين، ومن هنا كانت المشكلة وفهمها، وإذا كان الحديث عن النكبة فثمة نكبات أصابت الأمة العربية كانت الأولى خيانة الإنكليز للعرب وعدم الالتزام باتفاقية حسين مكماهون بقيام دولة عربية على خلفية سقوط الدولة العثمانية، وقبل ذلك عدم توحيد الشام ووادي النيل على يدي إبراهيم باشا حيث اتفق الغرب مع الأتراك العثمانيين على إخراج جيوشه من بلاد الشام، أما النكبة الثالثة فكانت بمعاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل التي فتحت البوابة العريضة للحلول التسووية والتي ألحقت الضرر بالقضية الفلسطينية وشكلت أول اعتراف عربي بالكيان الصهيوني المحتل.
وبالعودة بالأمور إلى أساسياتها وبقراءة نقدية لمسار الصراع العربي الإسرائيلي، نجد أن لا خيار إلا خيار الكفاح المسلح ولا سبيل لنا للقضاء على هذا العدو إلا بوحدة عربية وتضامن وشراكة مع محيطنا الجغرافي نواته تحالف حقيقي مع دول فاعلة في الفضاء الإسلامي كإيران مثلاً، وهذا لا يعني أسلمه الصراع لأن أسلمته أو تديينه يصب في مصلحة اليمين الأوروبي والأميركي الذي يرى أن الإرهاب قد بدأ فلسطينياً ليصل ليكون إرهاباً إسلامياً، ومن هنا تأتي أهمية استعادة خطاب حركة التحرر الوطني إذ أصبحنا نرى استخدام كلمة إسرائيل في منهاج دول عربية وآسيوية وغيرها بعد توقيع معاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية، فالتخلي عن خطاب حركة تحرر وطني ولاسيما بعد أوسلو والحديث ليس عن سلطة فلسطينية بل سلطتين ضيق على مقولة الصراع بل جعله في حدود معينة صراعاً بين القوى الفلسطينية وليس صراعاً مع العدو الصهيوني، بل والدفع باتجاه أنه صراع على سلطة بين الفلسطينيين وليس صراعاً على وطن محتل وأرض محتلة.
إن نكبات عربية كانت قد سبقت ما سمي نكبة فلسطينية لم تعد فلسطينية فحسب بدأت بخيانة الإنكليز للعرب وسقوط الدولة العثمانية التي اشتغلت على فكرتين هما تتريك العرب أو تتريك الإسلام، ومع سقوطها كانت النكبة الكبرى هي عدم ولادة كيان عربي بديل عن الدولة العثمانية، فقيام الدولة العربية في دمشق لم يدم سوى سنة ونيفاً، حيث وقعت سورية تحت الاحتلال الفرنسي إعمالاً لسايكس بيكو، مع الإشارة إلى أن الغرب ذاته قد وقف في وجه إقامة كيان قومي عربي على يد محمد علي وابنه إبراهيم باشا قبل ثمانين عاماً، ووقف إلى جانب العثمانيين وحدّ من طموح إبراهيم باشا في توحيد بلاد الشام والنيل، ووقع العرب ضحية خيانة ما سمي اتفاقية حسين مكماهون ثم تقاسم الإرث الجغرافي للدولة العثمانية وما أعقب ذلك من حدوث فوضى خلاقة تقاسم من خلالها الغرب تركة الدولة العثمانية، ومذ ذاك بدأت تتشكل أرضية قيام الكيان الصهيوني، وبالتالي علينا أن نميز بين ولادة الكيان عام 1948 وبين تشكل الجنين وهو الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920 بعد سنتين من فترة الانتقال إلى الكيانات الصغيرة وزمن الخداع البريطاني الفرنسي، فالنكبة الفلسطينية هي الوليد الصغير للنكبة العربية والخيبة العربية، ولعل التأسيس للنكبة الفلسطينية هدفه تبرئة ذمة بريطانيا بما لحق بالفلسطينيين من احتلال استيطاني ومن تحلل بريطانيا من عدم التزامها بما رتبه عليها نظام الانتداب من التزامات بحيث لا يسمح للمنتدب تسليم أو التفريط بما انتدب عليه ليكون كالوصي الذي يرعى ويدير حياة القاصر، وهذه فكرة الانتداب. إن نشأة الكيان مرت بثلاث مراحل: الفكرة الفرنسية لنابليون وفشلت في عكا، وتكرّست الفكرة للإنجليز بوعد بلفور، والحماية والرعاية هي لأميركا بعد ولادة الجنين.
فالتلاقح بين الدعوة اليهودية لقيام كيان في فلسطين وبين رغبة نابليون إقامة ذلك الكيان على ضفاف المتوسط حيث سعى لتحويله إلى بحيرة فرنسية في إطار الصراع القائم على النفوذ بين الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية للسيطرة على البحار والممرات التجارية.
لقد مرّ المشروع الصهيوني بعدة مراحل كانت بدايتها إطلاق نابليون بونابرت فكرة إقامة كيان يهودي في فلسطين عند احتلال فرنسا لمصر عام 1799، ثم بعد ذلك جاء دور بريطانيا لاحتضان ذلك الجنين عبر الانتداب، والسؤال هنا: هل انتدبت بريطانيا على فلسطين لتوفر بيئة لقيام دولة فلسطينية أو تحضير الدول للاستقلال حسب نظام الانتداب، أم انتدبت لتوفر بيئة حاضنة وأرضية لقيام الكيان الصهيوني؟ فكنا ضحية خداع التسمية وتوفير أرضية لقيامه عبر فسح المجال للهجرات اليهودية إلى فلسطين وتنشئة ورعاية ميليشيات يهودية شكلت نواة لما سمي جيش الدفاع الإسرائيلي ترافق كل ذلك مع إقامة مستوطنات وبنية تحتية عسكرية وعلمية وهنا نشير إلى الجامعة العبرية ومعهد “التخنيون” اللذين شكلا ولادة علمية للكيان قبل الولادة السياسية، فإسرائيل العلمية سبقت إسرائيل الكيان السياسي، وإسرائيل العسكرية من خلال “الأرغون” و”الهاجاناه” سبقت قيام الكيان السياسي فلم تسبق السلطة الكيان إنما الكيان المادي مستعمرات مصانع جامعات ميلشيات سبقت قيام الكيان السياسي، من هنا تأتي أهمية بناء قاعدة المقاومة قبل السلطة السياسية وهذا جرس إنذار لمن يفضلون السلطة على الأرض علماً أن ثمة نقطة إيجابية في وجود سلطة على أرض فلسطينية وهي عودة قوى وقيادات إلى الداخل الفلسطيني وبناء مؤسسات وطنية فلسطينية في أراضي الحكم الذاتي قد تكون في يوم من الأيام نواة لدولة فلسطينية مستقلة على الرغم من عدم القناعة بأوسلو، فالحل يجب أن يستند إلى مشروع دولة وليس مشروع سلطة .
إضاءات – د. خلف المفتاح