الملحق الثقافي: عقبة زيدان :
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ورطني والدي بالقراءة، وأهداني مكتبته الضخمة، التي اشتراها – كما تقول أمي بصوت عميق وخافت – من المال المخصص لشراء الخبز.
في تلك اللحظة، وبعد هذه الكلمات الأمومية الموجعة، عرفت أن والدي على حق، ووالدتي أيضاً. وصار لزاماً عليّ أن أعتني بتلك المكتبة، التي كانت بالنسبة إلى والدي، أثمن ما في الوجود: إنها عقله ومشاعره وأولاده وأصدقاؤه، وربما روحه.
الآن، وبعد أن دخلنا عالماً جديداً، أصبحت فيه الكتب تُقرأ من جهاز ضوئي، أجبرتُ على تحميل عدد كبير من الكتب، لعدم القدرة على شرائها، أو لعدم تواجدها ورقياً. صرت أحمل في جيبي ذاكرة إلكترونية صغيرة فيها عشرين ألف كتاب. ولكني لم أشعر يوماً بأنني أملك أي كتاب حميم، كتلك الكتب التي تستلقي على رفوف مكتبتي.
أما والدي، فلم يقتنِ أي جهاز إلكتروني، ولا يزال يقرأ كتباً ورقية، ويحافظ عليها وكأنها كنز ثمين. هو رجل من ذلك الزمن الورقي، الزمن الذي كان فيه الكتاب مقدساً، وصناعة العقل مقدسة، والثقافة مقدسة.
أمسكُ بين يدي أحد الكتب الورقية التي أهداني إياها والدي، وأقلب صفحاته الصفراء. أشم فيه رائحة الخبز، وأرى تجاعيد وجه أمي التي تكفي لوجوه عشر نساء ثمانينيات. أرى فيه أبي بوقاره المعتاد، جالساً كحكيم أسطوري، ممسكاً بيديه كتاباً، وهائماً في عالم، ربما لم يعد يهمّ سوى حفنة من الذين يشبهونه، من الذين يدركون أن الكتب كالخبز تماماً.
Okbazeidan@yahoo.com
التاريخ: الثلاثاء13-10-2020
رقم العدد :1016