البيت الدافئ هو بيتنا.. ومنْ منا بلا بيت حتى ولو كان قائماً تحت غطاء خيمة إلا أنه يظل المأوى، والسكن.. فيه نشعر بالدفء ولو كان بارداً، وفيه نشعر بالأمان ولو كانت الرياح تعصف به.. صغيراً كان أم كبيراً، لا يهم.. المهم أنه يحتضننا، ويضمنا إليه بألفة المكان.. إنه ليس سقفاً، وجدراناً، وشرفات، ومكاناً نجد فيه السرير الذي نرمي فوقه بأجسادنا المتعبة.. بل إنها فكرة البيت هي التي تحتوينا، لأنه سكن الروح، والملجأ الذي تكون فيه الحماية.
لكن حالنا في العقود الأخيرة تبدل مع سهولة التنقل من مكان إلى آخر، وكذلك السفر بين القارات، فأصبحنا نعيش خارج بيوتنا أكثر أوقاتنا.. أما ما أصبح متاحاً للسياحة، والترفيه، والتنزه في أغلب البلدان فإنه يغري بالتوجه نحوه لقضاء ساعات تلو الساعات مع طلب المزيد من الأوقات لمزيد من الاستمتاع بما هو متوفر، وربما بكثرة، فأغلبنا يعتبر البقاء في المنزل أمراً مملاً مادمنا قد اعتمدنا أسلوب حياة هي خارجه، وكأننا في بحث دائم عن ضالة منشودة إذ نتجول بين هنا وهناك، إلا أننا لا نعثر عليها.
وأذكر أنني عندما زرت الولايات المتحدة كنت منبهرة بجمال البيوت بما فيها الحديقة الخاصة بكل منها تحيط بها، وهي تنتثر بين غابات طبيعية تتجول فيها حيوانات برية وادعة أصبحت أليفة بحكم اقتراب الإنسان من مواطنها من غزلان، وسناجب، وأرانب، وغيرها.. أما تلك البيوت التي يعرضونها كنماذج وهم يفتحون أبوابها للشاري الذي يرغب بالحصول على مثلها ليلقي نظرة عليها من الداخل فقد كانت في غاية الأناقة، والراحة، والجمال.. وتمنيت لو أنني أسكن في واحد منها، أو أنني أحمله معي إلى موطني حيث أعود.. لكنني ما لبثت أن حزنت لحال سكانه إذ هم قلما يؤون إليه في ساعات يومهم، بل إنه تحول إلى مجرد مكان لاستراحة الليل لا أكثر، وحتى في إجازة نهاية الأسبوع فهم لا يبقون في بيوتهم بعد ساعات العمل الطويلة ليتمتعوا بجماليتها من الداخل والخارج، وما توفره لهم من وسائل الراحة، وإنما يهجرونها ليقصدوا الأماكن العامة المخصصة للترفيه، والتنزه.
وها هم أغلب الناس قد أصبحوا كذلك لتغدو بيوتنا باردة، شبه مهجورة ونحن نبتعد عنها ليس في ساعات عمل طويلة فقط بل في ما بعدها أيضاً فنقضيها في المقاهي، والنوادي، وأماكن التسلية، والأسواق التي تجذب إليها بمختلف مغريات الشراء، وبأيام جمعة سوداء، أو بيضاء لا فرق.
فأين هو البيت الدافئ إذاً ما دام الرمز قد أصبح خارجه؟.. وكذلك هو حال الأوطان عندما نهجرها، ونسافر بعيداً، وتضعف فرص العودة إليها رغم ما تحمله في أعماقنا من رمز، ومعنى للانتماء.. أجل.. هذا حالنا عندما نغادر البيت الدافئ ليغدو بارداً.
ومادمنا قد كثّفنا من نشاطنا البشري خارج مساكننا فلاشك أن هذا انعكس بدوره على سلامة البيئة من حولنا، فإذا بالأرض التي أتعبها الإنسان بحمله الثقيل فوق أكتافها تعاقبنا لتتحول هي إلى ذلك البيت الدافئ عندما تبلغ درجات الحرارة العالمية مستويات لم نشهدها من قبل تصل بنا إلى حالة من تسارع المناخ الاحتراري، ومشكلة مناخ عالمية.
هذا الدفء الذي بدأ يتزايد من حولنا ليس ليشعرنا بالألفة بل ليشعرنا بالضيق، والاختناق مع ارتفاع حرارة الأجواء، وكأنه العقاب لنا لنتحول الى بيت آخر نقصده لنسكن إليه، فلا نغيب عنه أكثر مما نفعل، وأن نخفف من سلوكنا الذي يستهلك أرضنا، وكأنها تقول لنا: إذا كنتم لا تعرفون كيف تعودون إلى بيوت تستمتعون بأجوائها فأنا سأجعل من بيتي أكثر من دافئ حتى تعودوا إلى رشدكم.
إضاءات ـ لينـــــــا كيـــــــــلاني :