من يظن أن معركة الاستقلال في هذا الشرق الكبير, ومنه الوطن العربي, قد انتهت فهو وأهم, صحيح أن الاحتلال العسكري المباشر قد انتهى وولى إلى غير رجعة, لكنه لم ولن يبرح المكان إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلا, فعمل على استبدال الأدوات التقليدية بأدوات وأساليب جديدة, ظهرت اليوم بما يسمى الحروب الذكية, أو حروب الجيل الرابع والخامس, حروب بلا سلاح ناري, لكن ثمة سلاح آخر أكثر فتكاً وديمومة, ألا وهو سلاح العقل واستلابه, سلاح الغزو الفكري.
عمل منظم ومتقن منذ كان تواصل الغرب مع الشرق, وبداية رحلات الاستكشاف التي أخذت طابعاً سياحياً, واليوم أثمرت للغرب الكثير مما أراده, وفي هذا الإطار تظهر ما سميت المركزية الغربية وعمل المفكرين الغربيين على فكرة أن كل شيء لايصدر من الغرب فهو غير جدي, وليس أصيلا أبدا, من هنا كانت عمليات الاستلاب الكبيرة لكل مخصبات العقل التي ينتجها المفكرون والكتاب والمبدعون العرب وغيرهم في هذا الفضاء غير الغربي, فما من مذهب وتيار فكري مما كان بسيطا في الغرب إلا وتجد صداه هنا كما يقول أحد المفكرين العرب, يتناقش الكتاب والمفكرون العرب فيه, وحوله و يتجاوزه الزمن في الغرب, وقد يكون صرعة عابرة, لكنه يبقى هنا.
وأقرب الأمثلة على ذلك أن الغرب شغل الكتاب والمبدعين بفكرة أن الفن للفن, وليس له دور في حياة المجتمع إلا أن يكون ترفاً وجمالاً, والالتزام ليس إلا إلزاماً, وكان أن غرق الكثيرون في هذه الدوامة لعقود من الزمن, وليكتشفوا أنهم كانوا ضحايا سعال وعطاس غربي أراد لهم أن يكونوا هلاميين, لاقيمة لما يقدمونه من أعمال , بينما ظل الأدباء والمبدعون المتجذرون في الحياة وبها, في أميركا اللاتينية وروسيا, وهنا أيضا يقدمون أروع الأعمال التي تنبض بهموم الناس وتعنى بالقدرة على الخروج من مستنقعات حان وقت تجفيفها.
هذا في الثقافة والإعلام والاقتصاد, ونواحي الحياة كلها, ظهر واضحاً دون لبس, وقد أطلق عليه الراحل عبد الوهاب المسيري (الحداثة المائعة) التي تأخذ الشكل الذي تنسكب فيه, بمعنى آخر لاقيمة لها, لا طعم لا لون, هي عطاس عابر, لكنه دون صدى حيث يعيش العاط , بينما يتردد صداه في أماكن أخرى كثيرة عمل تهيئتها لتكون البيئة الحاضنة له, ليس حباً, ولاهياماً, إنما تخريب للعقل والذوق, والدخول في موجات الاستلاب الكثيرة, وليس آخرها استلاب الأزرق وتحول الفكر إلى هلاميات ما تكاد تبزغ حتى تتلاشى وتطير وتصبح هباء منثوراً, والغريب أن ثمة من يعمل ويروج لها, ويريد ركوب موجة التقنيات الذكية جدا, وهذا ضروري, لكن هل أعد بنية فعلية لجدار الصدر الفكري والعقلي؟.
لسنا متجمدين ولا نريد أن نتكلس لكن من الضرورة بمكان أن نحصن أنفسنا تماما, فالمركزية الغربية ليست إلا حلقة من حلقات الاستلاب وما أكثرها, ولا ندري أين وكيف تتوقف.
معا على الطريق- بقلم أمين التحرير- ديب علي حسن :