تحدثَ د.حسن مدن قبل نحو خمسة أشهر في مقالٍ قصير عن رواية «1984» الشهيرة للروائي جورج أورويل، بوصفها -كما اقتبسَ هو نفسه عن الراحل جلال أمين ونقاد آخرين-” تدخل في خانة الكتب المحظوظة، التي تأتي في وقتها، حين يلتقط الكاتب فكرةً لم تخطر على بال سواه، تستشرف المستقبل، فتبدو، بعد حين، بمثابة النبوءة، حتى لو لم يقصد كاتبها ذلك”.
وقد ذكرَ د. مدن أنَّ الشاعرَ والناقد ت. إس. إليوت، نصحَ الناشر حين عرض مسوَّدةَ الرواية عليه طالباً رأيه في النشر؛ بعدم نشرها. لم يجدها جديرة بذلك. ولكن الناشر لم يأخذ برأي إليوت على أهميّته، بل انصاعَ أيضاً لإصرار أورويل بنشرها كاملةً مع ما يشبه ملحقاً، “خصصه لشرح اللغة المستخدمة في الأنظمة الشمولية، الذي غدا بالمناسبة مرجعاً للباحثين في تحليل الخطاب الشمولي، رغم أنه أقحم على البناء الروائي، ولا يتسق مع إيقاعه” وفق تعبير د. مدن.
إذاً وجهُ الحظِ في شهرةِ هذهِ الرواية وطبعها في مئات الآلاف من النسخ، ليس فقط في أنَّها نجت من رأي إليوت، بل في موضوعها، وربَّما أيضاً في رغبةِ دولٍ وأنظمةٍ وربّما معسكرٍ كاملٍ أن تكونَ جزءاً من بروبوغاندا موجَّهة، وهذا ما حدثَ أيضاً في التعامل مع روايتهِ المهمّة “مزرعةُ الحيوانات”، التي نشرت في لندن 1945، سواء أرادَ الروائيُّ ذلك أم لا، وهو بالتأكيد لم يرد ذلك.
لكن الحديث بعامة عن روايةٍ محظوظة وأخرى غير محظوظة لا يقف عند ذلك… فبرأيي إن أولَّ الحظ إنما يتمثَّلُ في اللغةِ التي تكتبُ بها الرواية، والأمة التي تصدرُ عنها، فأن تكتب رواية في بريطانيا أو أميركا وباللغةِ الإنكليزيّة، أو في فرنسا وبالفرنسيّة، يمنحُ العملَ جواز سفرٍ لا يُتاح لسواه؛ مما يُنشرُ عن لغاتٍ وبلدان ضعيفة.
وثاني الحظ يتمثَّلُ في الجهات الكبرى والمؤسسات المختلفة التي يمكن أن تتبنّى العملَ الروائي لغايةٍ أو أخرى؛ فقد دفعت الدولُ الاشتراكية ذات يومٍ إلى العالميّة رواياتٍ وروائيينَ قد لا يستحقون جميعهم ما وصلوا إليهِ ونالوه من الشهرة، وفعلتِ الأمر نفسه مؤسساتُ غربيّة وجوائز أدبيّة كبرى، وامتدَ تأثير ذلك إلى عالمنا نحن فصدَّرت أحزابٌ كتابها وأضرت بغيرهم، واليوم تؤدي جوائزُ مختلفة في البلاد العربيّة الدورَ نفسه؛ فقد نجدُ روايةً معينة تحظى بتسليطِ أضواءٍ مبهرةٍ عليها لأنها تتحدَّثُ عن أقلياتٍ عرقيّةٍ أو دينيّة هنا أو هناك، أو لأنها استنفرت هذه الطائفة أو تلك، أو لأنها تروِّجُ لانفصالِ هذه المجموعة السكانيّة أو تلكَ عن وطنها، وما إلى ذلك.
والشكلُ الثالثُ يتمثَّلُ في عدم معاداةِ الروايةِ للصهيونيّة، ومهادنتها لحلمِ اليهوديِّ المهاجر في التشبّثِ بأرضِ فلسطين.
بالإضافةِ إلى ضروبٍ كثيرةٍ من الحظوظ لا يعرفها الجميع، لكنها تؤدي أدواراً غريبةً في رفعِ رواياتٍ إلى القمّة والخفضِ بأُخرى…
لكنَ معظمنا ينسى دورَ الزمن؛ الزمن الذي يغربلُ كلَّ الأشياء بما فيها الأعمال الإبداعيّة، ويُلقي جانباً عاملَ الحظ الذي تخلقُه مؤثِّراتٌ معيّنة تأتي من خارجِ الفن، فلا تبقى في ذاكرةِ البشريّة إلّا الأعمال العظيمة الإنسانيّة الجميلة، التي تستحق البقاء لقيمتها المستمدَّةِ من عالم الفن فحسب.
إضاءات- د. ثائر زين الدين