ثورة أون لاين – د.ثائر زين الدين:
حين بدأتُ قبل بضعةِ أشهر ترجمةَ قصيدةِ ” ثمَّةَ دائماً يدُ امرأةٍ”، للشاعر الروسي الشهير يفغيني يفتوشينكو تذكَّرتُ عبارة أستاذة الأدب الروسي يلينا سيرغيفنا المازحة:”المرأةُ ليست إنساناً؛ المرأةُ صديق الإنسان”، التي كان يطيبُ لها أن تُردِّدَها حين نبدأُ حديثاً جاداً عن المرأة، فتعلو وجوهنا البسمة؛ نحن المجموعة الصغيرة من طلّاب الدراسات العليا السوريين الذين احتضننا معهد خاركوف البوليتكنيكي، أواخر ثمانينيّات القرن الماضي، وفرقتنا الدروب عام 1993، فأصبحَ أحدُنا روائيّاً، والآخر شاعراً، والثالثُ أستاذاً جامعيّاً عالِماً، والرابعةُ أستاذةً في الهندسة، والخامسُ موظَّفاً وزوجاً طيِّباً، والسادسُ وزيراً، ولعلهم إذا ما قَرؤوا عباراتي الآن يبتسمون وتحملهم يدُ الذاكرة الرخيَّة إلى أجواء ذلك المعهد؛ وأيامهم الطيّبة هناك… وقد يتذكَّرُ أحدهم عبارة أستاذتنا ” المرأةُ صديق الإنسان”، فيبتسمُ من جديد بينما يرتعشُ قلبهُ شوقاً وحنيناً…
لكن قصيدة يفتوشينكو تجسيدٌ طريفٌ لعبارة الأستاذة، إن المرأة الرائعة التي يرسُمُها لا تكفُّ عن تقديم يد المساعدة، ولا تبخلُ في بذلِ الحنو والعطف، حتى ولو كان على حسابِ نفسها، وهي موجودة في كل لحظة كإلهة من آلهات الحب والخير والعطاء، إنها تعاملُ الشاعرَ كصبيٍّ مذنبٍ شقيٍّ ومحبوبٍ في الآن نفسه، هي لا تلجأُ إلى اتخاذ العقوباتِ القاسيّة بحقّه، تاركةً ذلك لغيرها، بل لعناصر الطبيعةِ نفسها: المطر والريح وأغصان الأشجار، بل لضميره الذي يصحو ويشرعُ في تأنيبهِ وتقريعه، لدرجة أنك -كقارئ- توشك أن ترفض هذه الطيبة الشديدة، والاستسلام لشقاوات ذلك الصبي الأخرق، بل قد تشعر أنك ترغب في تأديبهِ كما ينبغي… لكنها رؤيا الشاعر على أيِّ حال.
لن أُفسدَ عليكم جمالَ القصيدةِ بالحديث المُطوَّلِ عنها – وهذا ما قد يفعلُهُ بعضُ الدارسين والنُّقّاد- بل سأطرحها بين أيديكم تاركاً لكم الحكم:
ثمَّةَ دائماً يدُ امرأة
توجدُ كي تبعثَ برقَّةٍ وعذوبةٍ
الطمأنينةَ في نفسك،
حانيةً ودودةً؛ كما لو كنتَ أخاً.
ثمَّةَ دائماً كتفُ امرأة
تُلقي عليها رأسَكَ الماجنَ،
وتزفرُ فيها بحرقةٍ،
وقد ائتمنتها على حلمك المُتمرِّد.
ثمَّةَ دائماً عينا امرأة،
وجُدتا كي تمنعا ألمكَ،
إن لم يكن كلّه، فبعضهُ،
وقد شاهدتا مُعاناتك.
لكنَّ يدَ امرأةٍ
حُلوةً بشكلٍ خاصٍ،
ستكونُ كالأبديّةِ، كالقدر،
حينما تلمسُ جبهتكَ المُعذَّبة.
وكتفَ امرأةٍ أيضاً،
ليسَ مفهوماً لماذا مُنحتْ لك،
ليسَ لليلةٍ فحسب بل للعمرِ كلّه،
وأنتَ تعلم ذلكَ منذُ زمنٍ بعيد.
وعيني امرأةٍ
تنظرانِ إليكَ بحزنٍ دوماً
وهما حتى آخرِ أيامِ عُمرك
عينا حبِّكَ وضميرك.
غيرَ أنَّكَ تعيشُ بالرغمِ من ذلك
غيرَ مُكتفٍ بتلكَ اليدِ،
أو تلكَ الكتفِ، أو تينكَ العينينِ الحزينتين…
لقد خنتهنَّ في الحياةِ كثيراً!
وها هو ذا القصاصُ قد جاءَكَ:
“أيُّها الخائن”- يضربكَ المطرُ بشدَّة.
“أيُّها الخائن”-تلطمُ الأغصانُ وجهكَ.
“أيُّها الخائن”-يتردَّدُ الصدى في الغابة.
وتتألَّم، وتتعذَّب، وتحزَن.
ولا تغفر لنفسكَ،
ولكنَّ تلكَ الكفَّ الشفَّافة وحدَها
تغفرُ لكَ، بالرغمِ من ألَمِها وثقلَ الأمر عليها.
وتلكَ الكتف المُتعَبة وحدها
تغفرُ لك الآنَ وفيما بعد،
وتانكَ العينانِ الحزينتان وحدَهما
تغفران لكَ ما لا يُمكنُ غُفرانُه.