الثورة- سعاد زاهر:
في الأفلام النفسية التي تستنطق الهواجس وتفتح أبواب الإدراك الملتبسة، من هنا يأتي فيلم “الخوف من المطر” “Fear of Rain” ليطرح سؤالاً جوهرياً، هل المرض العقلي حاجزٌ يحجب الحقيقة، أم نافذة تفضح ما يتغافل عنه الآخرون؟.
الفيلم لا يقدّم نفسه كعمل رعب تقليدي، بل كرؤى بصرية تعكس هشاشة الإنسان وهو يتأرجح بين الوهم والحقيقة، بين الخوف من ذاته والخوف من إنكار الآخرين له.
تكمن خصوصيته بأنّه يرفض التعامل مع الفصام كعزلة مطلقة أو كقيد يقطع صاحبه عن العالم، بل على العكس، يقدّمه كمساحة عبور نحو إدراكٍ مضاعف، كمن يرى ما لا يراه الآخرون.
هذه المقاربة تضع الفيلم ضمن الأعمال التي تكسر القوالب الجاهزة للمرض النفسي، وتمنح المريض صوتاً لا كضحية بل كشاهد محتمل على حقيقة مُهملة.
هنا تتجلى أهميته، إذ يحرّض المشاهد على مساءلة مفهوم “العقل السليم” ذاته: من يملك تعريف الحقيقة؟
الحكاية تدور حول رين “ماديسون إيسمان”، فتاة تعاني من الفصام، مثقلة بالهلوسات السمعية والبصرية، تبدأ في الاشتباه بأن جارتها قد اختطفت طفلاً، لكنها محاصَرة بشك دائم في صدقيتها، من نفسها ومن محيطها على السواء.
المشاهد يجد نفسه في منطقة التباس، هل ما تراه رين حقيقة مدفونة خلف الضباب؟ أم مجرد انعكاسات لمرضها؟ هذا التداخل بين الواقع والخيال هو قلب الحكاية وجوهر قوتها الدرامية، وفي الأداء هناك “ماديسون إيسمان” التي قدّمت شخصية رين بصدق لافت، جسدت على ملامحها صراعاً بين الهشاشة والصلابة، كل ارتجافة في عينيها كانت تقول، “أصدق نفسي ولا يصدقني أحد”.
كاثرين هيغل بدور الأم أضفت عمقاً عاطفياً على الفيلم، أداؤها حمل ثقل الحب الممتزج بالإنهاك، فبدت شخصية الأم لا كحائط حماية فحسب، بل كإنسانة مرهقة من مواجهة دائمة مع ما لا تستطيع احتواءه.
اختارت “كاستيل لاندون” المخرجة والكاتبة، أن تنقل تجربة الفصام من الداخل لا من الخارج، تقنيات التصوير والقطع المفاجئ خلقت ارتباكاً مشابهاً لما تعيشه البطلة، بحيث يغدو المشاهد شريكاً في اضطرابها.
هنا يتضح أن الرعب في الفيلم ليس رعب الدماء أو الظلال، بل رعب الإدراك نفسه، حيث لا يوجد شيء ثابت، وكل يقين قابل للانهيار.
السينوغرافيا وظّفت المطر كرمزٍ مهيمن، المطر في الفيلم ليس وعداً بالحياة بل هو تهديد غامض، استعارة لخوف داخلي يتساقط بلا توقف، المكان اليومي “البيت، المدرسة، الحي” تحوّل إلى فضاء خانق بمجرد أن يدخل عبر عيني البطلة.
والإضاءة الباردة والزوايا المغلقة ساعدت في تكثيف الشعور بالريبة، وكأن المكان يتواطأ مع المرض ليصنع صورته الخاصة للعالم.
يحمل الفيلم رسالتين واضحتين؛ على المستوى الإنساني: ضرورة الإصغاء إلى أصوات المرضى النفسيين، فهم ليسوا مجرد أسرى لهلوساتهم، بل قد يحملون بصيرة تتجاوز إنكار الآخرين.
على المستوى الفلسفي: الحقيقة ليست مطلقة ولا موضوعية بالكامل، بل مشروطة بزاوية النظر.
ما يُعتبر هلوسة قد يكشف في النهاية جريمة واقعية، وتجاهل “صوت الهامش” سواء كان صوت مريض أو ضعيف، هو الخطر الأكبر، بمقارنته مع أفلام نفسية أخرى، يتضح موقع “الخوف من المطر” في هذا المسار الفني: في “A Beautiful Mind” 2001، الفصام مرتبط بالعبقرية، صراع جون ناش مع أوهامه يتخذ شكل ملحمة بين العبقرية والجنون.
وفي “Black Swan” 2010، المرض يتجلى كهوس فني، نينا تنهار تحت وطأة البحث عن الكمال، لتصبح شخصيتها انعكاسًا لصراع داخلي بين الظل والهوية.
بينما في “الخوف من المطر”، الفصام ليس تجلياً للعبقرية أو الهوس الفني، بل تجربة إنسانية عادية ومرهفة، حيث المريضة ليست عبقرية ولا أيقونة، بل مجرد فتاة تحاول أن تعيش.
وخصوصيته أنه يربط المرض بعلاقات الحياة اليومية: الأم، المدرسة، الجيران، ليظهر الفصام كمرآة لمجتمعٍ يفضّل إنكار الحقيقة على مواجهتها.