الثورة- أحمد صلال – باريس:
تمّ تصوير أحدث أفلام محمد ملص، “سُلّم إلى دمشق”، العام 2013 في سوريا، وهو وثيقة مؤثرة عن الحرب. تُعدّ الروايات السينمائية التي يُقدّمها المبدعون العرب، والتي تُقدّم رؤاهم للأحداث التي هزّت المنطقة، نادرة. فباستثناء أعمال قليلة مثل الفيلم التونسي “مَنْمَوْتِك” لنوري بوزيد والفيلم المصري “بعد الموقعة” ليسري نصر الله، لا تمتلك السينما العربية وثائق سينمائية مُعمّقة تُجسّد رؤية واضحة للاضطرابات التي ضربت هذا الجزء من العالم منذ ذلك الحين.
أصدر المخرج السوري محمد ملص تحفة فنية بعنوان “سُلّم إلى دمشق”، وهو الفيلم الذي يتوج ثلاثيته التي بدأها بفيلم “الليل” عام 1992 و”باب المقام” عام 2005. ومن خلال سرد شعري للغاية، يواصل ملص تناول المواضيع القريبة من قلبه، كما فعل منذ فيلمه الروائي الطويل الأول “أحلام المدينة” الذي صدر عام 1984.
في هذا الفيلم، حلل تداعيات الانقلابات المتعددة التي شهدتها سوريا منذ خمسينيات القرن الماضي، والتي أدت إلى دكتاتورية قمعت الحريات في نهاية المطاف، طوال مسيرته الفنية، سعى ملص إلى كشف جوانب مختلفة من النظام الشمولي، بما في ذلك السجون وقمع المرأة وتنامي التطرف الديني.”سُلّم إلى دمشق”، كما هو شائع في سينما ملص، لا يعتمد على توزيع أدوار جميلة قليلة تحظى بنصيب الأسد. ولا يترك مجالًا للأحكام المسبقة أو الأفكار المسبقة. لا يسعى المخرج إلى الحكم على شخصياته، بل إلى إدانة بيئتها السياسية، فهو لا يجعلهم ملائكة ولا شياطين.الأمهات وحدهنّ بالنسبة له، يجسدن مكانة الرحمة والإخلاص والتضحية اللامحدودة، الأم أيضاً مقاتلة ومستعدة للموت لحماية أطفالها، حتى عندما يكبرون ويصبحون مسؤولين عنهم.
للأسف، أداء الممثلين الشباب الذين يتشاركون الأضواء لا يرقى إلى مستوى هذا العمل المهم، ولذلك، تأتي بعض المشاهد باهتة أحياناً، كمشهد أحد الشباب الملقب بـ”سينما” “يجسده بلال مارتيني” وهو يبكي عند قبر المخرج عمر أميرالاي.
إن مشاهدة أحدث روائع ملص بمفردها أشبه بقراءة قصيدة واحدة من ديوان شعري بديع، ومع ذلك، فهي مدخلٌ شيّق لفهم سينماه، أسلوبه ورؤيته حاضران بقوة، فلا يتركان شيئاً للصدفة. يعلم متابعو أفلام ملص جيداً أن الموسيقا غائبة تماماً عن أعماله، ومع ذلك، في هذا الفيلم الأخير، يستخدم ملص الموسيقا غالباً لإضفاء لمسة من الحنين إلى الجوانب الكلاسيكية لشوارع دمشق. صوت المياه المتدفقة الذي يتكرر عدة مرات طوال الفيلم، سواء كانت مياه البحر أو الينابيع أو النافورة في البيت الدمشقي، يحتضن بشكل مثالي الموسيقا الرائعة لشربل الهبر وتوفيق فروخ.
في المشهد الأخير، يتحدى الشباب القصف. يمسك أحدهم بسلم ويصعد إلى السطح ليُناجي الله، جميعهم يهتفون من أجل الحرية على سطح دمشق، لن يفرّوا بحثاً عن وطن جديد، مهما كانت انتماءاتهم أو طوائفهم.
يُظهر الجيل الذي يُصوّره ملص مجدداً قدرته على الحفاظ على التوازن وتجسيد مجتمع بأكمله في مرحلة تحوّل، هذا الجيل نفسه قد مرّ بهزائم وانتصارات، وتعلّم أن بعد كل نكسة زخماً جديداً. تحيّة لمحمد ملص، الذي كسر حاجز الصمت، بعيداً عن صخب وهستيريا المبدعين الناشطين الصاعدين، هؤلاء تركوا مكانهم خلف الكاميرات، مفضلين الظهور في مقدمة المسرح ومنصات البرامج الحوارية.