الثورة أون لاين -عبد الحليم سعود:
مع غياب سلطة القانون الدولي وضعف تأثير المنظمات الدولية المعنية بالحفاظ على السلم والأمن العالميين، وارتفاع وتيرة الحروب والصراعات القائمة على الأطماع والنزعات العدوانية الشريرة، واستشراس بعض قوى العدوان والهيمنة لجهة انتهاك سيادات الدول والشعوب والأمم ونهب ثرواتها، مستفيدة من فائض القوى العسكرية التي تمتلكها، تزداد مسؤولية الدول المستقلة ذات السيادة تجاه الحفاظ على أمنها وأمن مواطنيها وحمايتهم من كل الأخطار التي تتهددهم.
وثمة أراء كثيرة في هذا المجال وكل رأي نابع من الشخصية والهوية الوطنية لهذه الدولة أو الأمة أو تلك، فالدول أو الأمم العريقة ذات الحضارة الأصيلة والحضور المؤثر عبر التاريخ لا تقبل بالتنازل عن كرامتها أو المساس بسيادتها واستقلالها مهما دفعت ودفع أبناؤها من أثمان باهظة، وأما الدول والكيانات الهجينة التي صُنّعت في ظروف غير طبيعية بفعل عوامل خارجية فلا معنى لديها لاعتبارات الكرامة والسيادة والاستقلال، إذ ينصب اهتمام الحكام فيها على ضمان بقائهم واستمرارهم بالتمتع بالثروات والمغانم والمكاسب على حساب شعوبهم ولو رهنت مصيرها ومصير هذه الشعوب لأي قوة خارجية تحميها وتوفر لها شروط البقاء.
وفي هذا الإطار ثمة من يرى أن القوة العسكرية والسلاح المتطور وحدهما من يحميان الدول ويردعان الأعداء والخصوم والطامعين بها، في حين يرى آخرون أن تحصين الجبهة الداخلية وتقوية الحالة المعنوية للمجتمع وترسيخ دور المؤسسات وسلطة القانون يمكن أن يكون عامل ردع أقوى على المدى البعيد للخصوم والأعداء، فمع احتكار القوى العظمى وأدواتها للتكنولوجيا العسكرية الحديثة ووسائل القتل والتدمير الأكثر وحشية وتطوراً تحرم الدول الصغيرة المناهضة للاستعمار ومشاريع الهيمنة من امتلاك الردع العسكري الكافي لحماية حدودها وأمنها وثرواتها، وأوضح الأمثلة على أن تحصين الجبهة الداخلية هو أكثر فعالية من امتلاك القوة العسكرية، حدثت خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها، حيث صمدت شعوب وانتصرت دول في هذه الحرب على دول استعمارية أقوى منها عسكرياً ولا سبيل المقارنة بينها من الناحية العسكرية، فقد انهارت ألمانيا النازية في أوج قوتها أمام جبروت الشعب السوفييتي الذي قدم ملايين التضحيات في الحفاظ على كرامته وحريته، وقد ضربت الأمثال بصمود ستالين غراد “بطرسبورغ” وصمود أهلها أمام الحصار النازي الشرس، وأصبح الشعب الفيتنامي مضرباً للمثل في قهره وهزيمته للقوات الأميركية الغازية رغم الفارق الهائل بالإمكانات العسكرية بين الطرفين، وفي منطقتنا أعطت المقاومة اللبنانية عام 2000 و2006 دروساً لا تنسى في الشجاعة والبطولة والانتصار حين تمكنت من هزيمة الجيش الصهيوني الجرار والمدجج بكل أنواع السلاح المتطور والحديث وأجبرته على الانسحاب من جنوب لبنان دون قيد أو شرط، حيث لا مجال للمقارنة بين الطرفين من الناحية العسكرية، وقد لعبت أسباب عديدة دورها في ذلك لعل من أهمها تحصين الجبهة الداخلية والصدق في التعامل مع الظروف المختلفة والإرادة والعزيمة الفولاذية في مواجهة التحديات، وعدم اليأس أو الاستسلام أو الخنوع أو الخضوع للتهديدات والضغوط مهما كانت شديدة.
وهنا يبرز السؤال المهم كيف نقوي جبهتنا الداخلية ونحصّنها ونحن نواجه ما نواجهه من ضغوط هائلة على الأصعدة كافة، سياسية وعسكرية واقتصادية ومعيشية وإعلامية ..الخ، لتكون أكثر تحصيناً وقدرة على الصمود والمواجهة والانتصار، ولاسيما أن جولات الحرب الإرهابية الكونية على بلدنا مستمرة بأشكال مختلفة ولم تنتهِ بعد، وكيف ننقل حالات اليأس والإحباط والانكسار والشعور بالهزيمة إلى المعسكر المعادي فيرتدع عن استكمال مشاريعه الاستعمارية ويوقف حربه العدوانية ويسحب قواته المحتلة من أرضنا؟.
من دون شك ليس من السهل الإجابة على هذين السؤالين ولاسيما مع وجود كم هائل من الأسئلة والهواجس الأخرى التي تطرح يومياً في الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي حول أدق التفاصيل وأبسط المشكلات، حيث يراد للتفاصيل اليومية والمشكلات الصغيرة أن تطغى على المشهد العام وتسرق منه الاهتمام لصالح أجندات بعض القوى الداخلية والخارجية المستفيدة التي لا تريد لهذه الحرب العدوانية أن تنتهي، لأن استمرار الحرب يحقق لها بعض المكاسب والامتيازات، ولكن ثمة مسلمات وثوابت لا بد من التوقف عندها لأهميتها في الإجابة على الأسئلة المتعلقة بتحصين بلدنا ضد كل الأخطار المحدقة به، فحماية الوطن يجب أن تكون واجبا مقدسا لدى كل مواطن، وهذا ما أثبته رجال الجيش العربي السوري بتضحياتهم العظيمة في الميدان، فالوطن ليس مجرد بقعة جغرافية نعيش عليها، بل هو البيت والشرف والعرض والكرامة، لذلك ينبغي أن يبادر الجميع إلى الدفاع عنه وكل من موقعه، وليس مطلوباً أن يحمل الجميع السلاح، لأن حماية الوطن لا تقتصر على حمل السلاح في حالات العدوان الخارجي، بل ينبغي أن يُحمى الوطن من كل سلوك شائن أو شائعة مغرضة تؤثر الروح المعنوية للناس ومن أي فتنة يسعى إليها أعداء الوطن، أو أي محاولة مشبوهة للنيل من الوطن وسيادته والإساءة إليه، والوطنية هنا ليست مجرد شعار نردده على المنابر وفي المناسبات بل سلوك يمارس على أرض الواقع ويتم إثباته بالعمل الجاد والمخلص في كل مواقع العمل والإنتاج.
كما يتم تحصين الوطن من خلال الحفاظ على أسراره الداخلية وعدم تضخيم بعض المشكلات لتكون ذريعة لدى الأعداء من أجل التدخل في شؤونه، وعدم التعامل مع أي جهة خارجية أو معادية تسعى للنيل من وطننا بسوء، والوقوف في وجه كل من يريد أن ينفث سمومه في المجتمع لأغراض الإحباط والتيئيس والتأثير على الحالة المعنوية للناس.
وفي هذا الإطار تبرز الخيانة كأسوأ ما يمكن أن يقوم به الإنسان ضد وطنه، لأن الخائن يتآمر ضد وطنه وشعبه لصالح جهة خارجية معادية بقصد تحقيق منفعة مادية أو بحثا عن مكسب أو مصلحة معنوية، فالإنسان الذي يخون وطنه ويتآمر عليه هو شخص عديم الأخلاق والقيم وهو بعيد عن الدين والمبادئ، حيث لا دين له ولا ذمة ولا عقيدة ولا شرف، لأن الخيانة هي أبشع ما يرتكبه الإنسان بحق شعبه ووطنه، وهذا ما ينطبق على أولئك الذين يعملون كمرتزقة عند قوات الاحتلال الأميركي والتركي حيث يستخدمون كخناجر مسمومة في خاصرة الوطن وفي صدور أبنائه.
ولذلك يتطلب تحصين الوطن التعاون مع الأجهزة الأمنية الساهرة على أمن وحماية الوطن والمؤسسات، ولا بد أن يتكاتف الجميع ضد أي خطر يتهدد الوطن، وأن يواجهوا كل من تسول له نفسه أن يتجرأ أو يعتدي على الأمن والسلم الاجتماعي بغض النظر عن الانتماءات الدينية والطائفية والاجتماعية لأن أبناء الوطن الواحد مطالبون بالوقف إلى جانب بعضهم في الأزمات والملمات لأن مثل هذا السلوك هو كفيل بتحصين الجبهة الداخلية حمايتها من أي أخطار محدقة.
وهنا من واجب الدولة أن تمارس دورها في إعداد الأجيال القوية الواعية المتعلمة المؤمنة بوطنها وأن توفر لها الصحة وفرص العمل، وأن تعتمد على الشباب بصورة خاصة عبر تدريبهم وتعليمهم وتثقيفهم وتهيئتهم بالشكل المطلوب لأنهم يشكلون درع الوطن الأقوى في كل الظروف بسبب الطاقات الكبيرة التي يمتلكونها، كما يقع على الأهالي “الآباء والأمهات” وكذلك المدارس مسؤولية تربية الأطفال في على حب الوطن وزرع هذا الحب في النفوس إلى جانب القيم والمبادئ التي يجب إتباعها ليكونوا أصحاء أقوياء جاهزين لتقديم التضحيات عند الحاجة.
ولما كان حب الوطن فطرة فإن التعبير عنه هو تعلم ومهارة وسلوك، لذلك ينبغي الإفصاح عنها عملياً عبر المبادرة لتقديم مصلحة الوطن على المصالح الشخصية، فلا يتردد أحد في التبرع للآخرين ومساعدتهم في حال واجهتهم ضائقة أو أزمة، لأن من أهم أسس تحصين الوطن هو التكاتف والتلاحم الاجتماعي بين الناس، إلى جانب الالتزام الطوعي بالأنظمة والقوانين، والمحافظة على البيئة والمنشآت العامة والمؤسسات حتى وإن كان في ذلك مشقة وتعب ومعاناة ومسؤولية.
لا شك أن تحصين الوطن من الداخل هو السبيل الأنجع لحمايته من كل الأخطار، وهو السلاح الأكثر ردعاً للأعداء، فالدول والأوطان المحصنة بشعوبها تظل لغزاً في نظر أعدائها، بحيث يفكرون ألف مرة قبل أن يعتدوا عليها أو يحاولوا النيل منها.