الثورة أون لاين – أديب مخزوم:
تحولت الفنانة التشكيلية الشابة لمى بارة في لوحاتها التي عرضتها في ثقافي أبو رمانة، من التجسيد الواقعي الذي قدمته في مراحل دراستها بكلية الفنون، إلى التشكيل التكعيبي والهندسي لمعطيات الطبيعة والزهور والأشكال الصامتة وغيرها، فهي هنا تنقل من الرسم الأكاديمي، إلى التشكيل الهندسي، الذي يتبع إيقاعات الدوائر والأقواس والمكعبات، لإبراز البعد الثالث على هيكلية الهندسة الفراغية .
ففي جلسات عملها في مجال رسم اللوحة المنفذة بالزيت تتداخل العناصر الهندسية مع الأشكال بصياغة منضبطة ومدروسة على الصعيدين الأسلوبي والتقني، وضمن بناء هندسي مكون من الالتفافات الخطية التي تخترق اللوحة ، وتحصر ضمنها زوايا ومكعبات، إلى جانب حضور الدوائر والمنحنيات والخطوط المستقيمة .
وتبرز مظاهر استخدام الألوان المتقاربة والبعيدة عن الصخب، بدرجاتها وحساسياتها المختلفة ، الشفافة والكثيفة والمركبة من طبقة لونية أو عدة طبقات، والهاجس الروحاني لم يغب أيضاً عن هذه المجموعة، فهي في هذه اللوحات تتعامل مع الحس الروحاني بإبراز شاعرية النور المتدفق . والشكل الهندسي في لوحاتها لا يظهر إلا عبر مساحات لونية هادئة، وبذلك فهي تحرك هندستها التشكيلية بعيدا عن الانفعال اللوني، وتبدو ريشتها في هذه المجموعة عقلانية ، لأنها قائمة على الصبر والتأني في التشكيل والتلوين معاً، من خلال الاعتماد على الدقة والدراية في أغلب الأحيان، مع إعطاء أهمية للتسطيح والبعد الثالث في آن واحد، حيث نجد الصرامة في إبراز العناصر التشكيلية والتلوينية والهندسية . وهي بالتالي تعكس أجواء التكوين المتماسك والمتوازن والمدروس.
وفي تنقلاتها ضمن هذه المجموعة ترتكز في كل مرة على حركة عفوية وتطلع ذاتي في بناء اللوحة. وتبدو مخيلتها اللونية متجهة بقوة لإيجاد علاقات جمالية مغايرة للأولى وبعيدة عنها، لما تحتويه من عفوية في حركة التلوين واللمسات اللونية التلقائية، وهذه الرؤية ، للتشكيل والتلوين، التي تعالج بها مواضيعها وأشكالها ، أدت إلى تغيير نظرتها من أسلوب الرسم الواقعي الذي أجادته، إلى طريقة الرسم الحديث والمعاصر . وفي عودة إلى لوحات البورتريه التي أنجزتها ، نجدها تمتلك القدرة على إظهار درجات الشبه، وإبراز الحالة النفسية التي تميز كل شخصية، في قسمات الوجه وتعابير العيون، إلى جانب لوحات الأزهار والموضوعات المختلفة .
نحو إضفاء الجانب الفني الحديث، و تبدو في هذه الأعمال، راغبة بالعودة إلى ذاتها، إلى العفوية التي تقربها من العصر، فالتكوين التبسيطي الذي تعتمده، هو لغة وثقافة حديثة لفن الواقع، وهو الأكثر ارتباطاً بثقافة وفنون العصر .
وتركز لمى لإظهار الحركات الخطية التي تتوافق والحضور اللوني العفوي، المكثف في اللوحة، بحيث تتداخل الخطوط والمساحات التشكيلية بتلقائية شديدة العفوية و باندفاع عاطفي ووجداني ، بعيدا كل البعد عن أي صيغة تسجيلية أو تزيينية أو حتى هندسية (بمعنى الهندسة المستوية أو الفراغية المحكومة بمعادلات وأرقام رياضية صارمة) .
هكذا تتجه في مجموعتها نحو الاختصار والاختزال والتكعيب العفوي والهندسي، واذا كانت تقنيتها الأولى تساهم في حضور الجو الشاعري ، فإن تقنيتها الثانية لها خاصيتها في إضفاء الكثافة والغنائية عبر تركيب اللمسات والحركات اللونية، وفي هذه الحالة تنطلق من مشاعر تلقائية وغنائية ووجدانية.
هكذا تشكل عناصر اللوحة مدخلاً لاقتناص الشاعرية اللونية والذهاب أبعد من الإشارات أو المظاهر الخارجية، للوصول إلى الصياغة الفنية في اتجاهاتها الخيالية والتعبيرية والتكعيبية، المنطلقة من الواقع ، لقطف روح المشهد بمنظور مغاير لما تراه العين في الأبعاد الثلاثة .
وهذه الصياغة الفنية الحديثة، تساهم في تطوير تقنيتها، في خطوات الانتقال من طريقة الرسم بطريقة واقعية وتسجيلية وناعمة، إلى طريقة إخراج اللوحة بصياغة أسلوبية حديثة فيها جرأة في وضع المساحات، بألوان مركبة ومتداخلة.
وهي تلتقي مع بعض منطلقات المدرسة التكعيبية في الرسم، القائمة على سلسلة من خطوات الحذف والإضافة. وتمتلك القدرة على تطوير تجربتها، وإيجاد خطها التصاعدي الأسلوبي، بالعمل اليومي المتواصل، لاسيما وأنها تحب عملها ومنطلقة في رحاب البحث التشكيلي، الذي يقربها من ثقافة فنون العصر، بقدر مايبعدها عن الصياغة التسجيلية السهلة، التي يمكن الوصول اليها بطرق متعددة، بعكس أسلوبها في وضع مساحات اللون، والذي يحتاج لموهبة وحساسية بصرية واطلاع على بعض توجهات الفن الحديث، ولعل نقاط الارتكاز التي تنطلق منها، تجعلنا نشعر بمناخية لابد من الإحساس بوجودها في كل لوحة، من لوحات هذه المجموعة .
ولمى بارة على هذا الأساس تقدم أنموذجاً لفن حديث ، ينأى عن المفهوم العام في إنجاز اللوحة الواقعية، وهذه ميزة من مميزات العمل بمسؤولية لافتة تجعل الألوان تتحرك على سطح اللوحة ، على شكل مساحات ولمسات وحركات متتابعة ومتراكبة ومتجاورة.
وهذا يعني أنها تعتمد على الحركة الإيقاعية للون، أكثر مما تعتمد على التعبير اللوني الساكن، وهي مهما انفعلت تبقى على ارتباط بالصورة والواقع، من خلال بحثها الدائم عن ملامحها العامة أو اشاراتها المبسطة والمختزلة.
وهكذا فهي تستعرض إيقاعات الأشكال، ولا تهدف الوصول إلى واقعية تصويرية دقيقة مرتبطة بالصياغة المهنية أو الحرفية. ولوحاتها تذهب إلى تنويع في الصياغات، فمن تبسيط الشكل واللون، وأختصاره أحياناً إلى التلوين الأحادي أو الثنائي، ومن اللون الذي يحقق شفافية، إلى الأعمال الأخرى التي تعتمد على غنى اللون وإبراز غنائيته وكثافته، والبحث عن إيقاعاته الموسيقية المقروءة بالعين، بحيث تتحول اللوحة إلى نوطة موسيقية قوامها الخط واللون والمساحة .