الملحق الثقافي – د.عدنان عويّد :
في المفهوم:
إذا كانت الليبرالية الكلاسيكية في أبسط صورها، هي ميلٌ من التفكير والممارسة يؤكدان سيادة العقل ودوره، وقوة الإرادة الإنسانية وحرية الفرد، والسعي نحو الحقيقة من أجلِ تحسين المحيط الاجتماعي، وإعادة تشكيله عبر المعرفة والتكنولوجيا، والتجربة الإنسانية المتراكمة بما يخدم حرية الإنسان وعدالته ومساواته.. بتعبيرٍ آخر، هي مجموعة القيم والمبادئ التي عبَّرت بعد قيام الثورة الصناعية عن طموحات الطبقة الرأسمالية الوليدة، وسندها القوي آنذاك الطبقة العمالية، في القضاء على سلطة الاستبداد، ممثلة بالملك والنبلاء والكنيسة، وإقامة الدولة المدنية، أي دولة المواطنة والقانون والمؤسسات والتعددية السياسية واحترام الحقوق الطبيعية للإنسان، من حيث حق الملكية وحرية الرأي، وحق الحياة .. الخ
إذا كانت الليبرالية الكلاسيكية هكذا، فإن الليبرالية الجديدة ممثلة بالطبقة الرأسمالية نفسها بعد أن وصلت إلى السلطة، وتحوَّلت إلى برجوازية (إمبريالية – استعمارية) مع نهاية القرن التاسع عشر أولاً، ثم إلى برجوازية (احتكارية – متوحشة) بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة، حيث راحت تسعى لإضعاف وهدم أفكار وقيم الليبرالية الكلاسيكية ذاتها، إذ تبيَّن لها أن أفكار ومبادئ هذه الليبرالية بالنسبة لدعاة النيوليبرالية، هي أفكار ليست طبيعية بالنسبة لمحبي الإنسانية، أو هي ليست حقيقية بالنسبة للطبيعة الإنسانية، فهي برأي هؤلاء الليبراليين الجدد، لا تعدو أن تكون أكثر من مثاليات، أو أبنية ذهنية محض.
الظروف الموضوعية والذاتية المنتجة لليبرالية الجديدة:
عموماً نقول: بعد الحرب العالمية الثانية، وما خلقته من دمار، أصبح من الصعوبةِ بمكان، استمرار النظرة التفاؤلية تجاه المستقبل، وأن هناك الكثير من الأشياء السيئة حدثت أثناء الحربين العالميتين، وفي مقدمتها ظهور الفاشية والنازية، وذاك الدمار الشامل الذي لم يعف أي شيء من ضرره على مستوى الساحة العالمية بشكلٍ عام، وعلى أوروبا بشكل خاص، ثم ذاك التهديد الدائم للإنسان بأسلحة الدمار الشامل، والسباق نحو التسلح الذي فرضته الحرب الباردة.. كلُّ ذلك أعطى انطباعاً عاماً لدى المتابعين في تلك الفترة الحرجة من التحولات، وبأن المستقبل يبدو مبهماً ومشكوكاً فيه أيضاً.
بعد انتهاء الحرب الباردة، ومحاولة الرأسمال الاحتكاري العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، التفرُّد بالقرار الاقتصادي والسياسي والثقافي العالمي، ومع سيطرة الرغبة العارمة لدى “مالكي” هذا الرأسمال الاحتكاري في تجسيد ما يسمى سياسة النظام العالمي الجديد، أو سياسة القطب الواحد، أو الليبرالية الجديدة التي تعبّر عملياً عن طموحات ومصالح هذه الطبقة الرأسمالية الاحتكارية العالمية، راحت هذه السياسة تعمل على إعادة صياغة أو هيكلة العالم وفقاً لمصالح هذه الطبقة، مستغلة في ذلك القوة الاقتصادية الهائلة المتمثلة عملياً، في الشركات المتعددة الجنسيات من جهة، ثم السيطرة السياسية على الهيئات والمنظمات الدولية الفاعلة من خلال الطبقات الحاكمة للدول العظمى التي يسيطر عليها مالكو الرأسمال الاحتكاري عبر النشاط الفاعل لهذه الشركات في هذه الدول العظمى من جهة ثانية، ويأتي على رأس هذه الهيئات والمنظمات الدولية “مجلس الأمن” و”صندوقا النقد والبنك الدوليين” و “منظمة الغات “ و”جمعية حقوق الإنسان” … إلخ .
إن ما سنقوم بعرضه هنا لا يهدف في الأساس إلى تناول كل ما يتعلق بالنشاط الجوهري لهذا النظام الليبرالي الجديد، لأن هذا سيتطلب منا الحديث عن الدولة، ومنظمة الغات، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والشركات المتعددة الجنسيات، وأساليب وطرق إعادة هيكلة العالم وفق رغبة ومصالح الطغمة الرأسمالية الاحتكارية، التي راحت تقود العالم عبر الولايات المتحدة الأميركية، ممثلة بما سمي “إجماع واشنطن” الذي تتحكم فيه الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الساعية إلى خلق نظام عالمي جديد، يقوم على مجموعة من المبادئ المتعلقة بالليبرالية الجديدة التي صاغتها حكومة الولايات المتحدة الأميركية والمؤسسات المالية التي ترتبط بهذه الحكومة إلى حد كبير، وعلى تحقيق هذه المبادئ بطرق مختلفة على مستوى مجتمعاتها أولاً، ومستوى دول ومجتمعات العالم الأضعف ثانياً، وذلك على شكلِ برامج تهدف إلى تعديلٍ بنيويٍّ ملحٍّ في هذه الدول أو المجتمعات، وبهدف إعادة هيكلتها بما يخدم مصالح الطبقة الرأسمالية المتوحشة ونظامها الليبرالي الجديد. أمَّا هذه المبادئ فهي:
1- تحرير قطاع التجارة والمال.
2- السماح للأسواق بتحديد الأسعار، أو تصحيحها.
3- القضاء على التضخُّم، أو تحقيق الاستقرار على مستوى الاقتصاد العالمي خدمة للشركات المتعددة الجنسيات.
4- خصخصة المنشآت الحكومية.
إذاً، الطبقة الرأسمالية الاحتكارية في نظامها الليبرالي الجديد، أخذت تفرض هيمنتها الاقتصادية ليس على أوروبا فحسب، وإنما على الاقتصاد والسياسة العالميين، حيث دفعتها شهوة الثروة والسلطة إلى التحكم برقاب الناس، وبالتالي السعي إلى إفراغ معظم الشعارات التي مثَّلها تيار الليبرالية الكلاسيكية المرتبط بالبرجوازية التقدمية آنذاك، من مضامينها كما بيَّنا سابقاً، والعمل تحت ذريعة شعارات الحرية والديمقراطية وغيرها من الشعارات الشكلانية التي راح يسوِّق لها في مضمار عالمها الليبرالي الجديد، على نفي وتدمير وتجاوز كل ما هو إنساني، أو يدعو إلى رقي الإنسان، والتمسك بما يساعد على تجسيد وتعميم ثقافة وأخلاقيات كل ما يعمل على تكريس مفاهيم الموت والدمار، وعدم التواصل والتفكيك والتذرير، وغير ذلك من المفاهيم المنتمية إلى العبث واللامعقول.
إشكاليات الليبرالية الجديدة:
1- سيادة نمط رأسمالية الدولة الاحتكارية بمؤسساتها على المستوى الاقتصادي ممثلة بـ “صندوق النقد الدولي – والبنك الدولي للإعمار والتنمية – ومنظمة أو اتفاقية الغات”.
2- السعي لفرض أنموذج الديمقراطية الأميركية على العالم، واستخدامها وسيلة لفرض السيطرة الأميركية.
3- تحطيم سلطة الدولة عموماً والدولة المركزية على وجه الخصوص، سعياً لإضعاف الدولة وجعلها هشة أمام اختراق الرأسمال الاحتكاري العالمي.
4- تحطيم الحوامل الاجتماعية الوطنية والعقلانية للدولة، والعمل على رفع قيمة ومكانة الحوامل الاجتماعية ذات المرجعيات التقليدية، عشيرة، قبيلة، طائفة.
5- محاربة كل الأنظمة الوطنية التي تغار على شعوبها وتعمل على مصلحتها، والعمل بجدٍّ للحفاظ على الأنظمة الدكتاتورية في دول العالم الثالث، وتقديم كل الدعم السياسي والعسكري والمالي، خدمة لمصالح الرأسمال الاحتكاري العالمي في هذه الدول.
6- العمل على نشر ثقافة الاستهلاك عالمياً بكل مستوياتها الاقتصادية والثقافية والأخلاقية، بغية تذرير الإنسان ونمذجته كفردٍ منعزل عن محيطه الاجتماعي بكل مستوياته، وتفتيت لحمته الاجتماعية، وإعادة تشكيل وعيه بما يشتغل على تنمية غرائزه بدلاً من تنمية عقله وإرادته.
7- تسييد فكرة موت ونهاية كل شيء “الفن – الدين – القيم – الأخلاق – التاريخ … الخ..”. وبقاء الوهم واللامعقول.
الموقف النقدي لليبرالية الجديدة:
أما الموقف النقدي العقلاني تجاه رؤى وأفكار ومبادئ وممارسات الليبرالية الجديدة، فهو موقف يرى أنها رؤى وأفكار كانت تعبر في حقيقة أمرها تعبيراً صادقاً عن وضعية الإنسان الأوربي بشكل خاص، وإنسان عالمنا الثالث أو النامي بشكل عام، بعد النتائج المدمرة للحربين العالميتين، والنمو الهائل للرأسمال المالي “الرأسمال المالي هو التحام الرأسمال المصرفي بالرأسمال الصناعي” الذي التحم بالدولة الرأسمالية، وتحوَّل بالضرورة إلى رأسمال احتكاري يمارس قوته وجبروته على الآخرين، عبر هذه الدولة التي التحم بها وحولها إلى رأسمالية دولة احتكارية، حيث راحت تعمل بدورها من خلال هذا الرأسمال وحوامله المسيطرة على زمام السلطة في هذه الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى إعادة هيكلة العالم من خلال الشركات المتعدّية أو المتعددة الجنسيات خدمة لمصالحها الأنانية الضيقة، الأمر الذي أدى إلى أن تفقد الكثير من الدول والشعوب قدرتها على التوازن في محيطها الاجتماعي والسياسي والثقافي، وهكذا أصبح حال الفرد في هذه المجتمعات أيضاً، فهو لم يعد قادراً على مسك زمام أمور نفسه بيده، فالفرد والمجتمع فقدا معاً معظم المقومات الحقيقية القادرة على إعادة بناء الإنسان ومجتمعه، بناءً إنسانياً فاعلاً، فتحتَ مظلّة هذا النظام الليبرالي الجديد، راحت تسود أفكار النهايات التي جاء على رأسها نهاية التاريخ، ونهاية الفن والأدب، ونهاية كل ما يعبر عن إغلاق أبواب الخلاص والمستقبل أمام الإنسان، وإن وجد مستقبل وفق الرؤى “الليبرالية الجديدة”.
إنها رؤى تمثل في واقع أمرها موت الإنسان ودماره كأمر محتوم، وهذا ما عبَّر عنه “ميشال فوكو” و”جاك ديدرا” و”هبرماس” و “بشلار” وغيرهم “، فكل ما طرحه هؤلاء ومن يمثل تصوراتهم من أفكار، أخذ يشير في الحقيقة إلى الموت أو النهايات أو العبثية، فنهاية التاريخ لـ “فوكو ياما” تضمنت على سبيل المثال، وفي سياقها العام، الأفكار الأساسية لما بعد الحداثة وهي، موت الفن، موت النزعة الإنسانية، العدمية، عودة الميتافيزيقيا، التفكيكية، التشتت، اللااستمرارية، التذرير الاجتماعي والقومي.. إلخ.
بهذه الرؤى التشاؤمية السوداوية، وبهذه النهايات، راح منظِّرو الليبرالية الجديدة يصورون للإنسان عالمه القائم، دون أن يرسموا له مسارات جديدة لخلاصه من هذه النهايات التي يعرف معظمهم مَن أوصل الإنسان إليها، وكيف أُوصلَ إليها في هذا العالم، متناسين أو متجاهلين، أن هذا الإنسان وفي كل مرة تعرض فيها لمثل هذا القهر، خرج منتصراً على أعداء الإنسانية، لا لشيء إلا لكونه إنساناً يحمل دائماً إرادة التغيير، مثلما العقل القادر على توجيه هذه الإرادة نحو الأهداف الإنسانية السامية..
كاتب وباحث من سورية
29-12-2020
رقم العدد 1026