الملحق الثقافي:د. سعيد عدنان :
بين الفلسفة والأدب سبب، قد يدقّ حتّى يُخفى، وقد يُعلَنُ فتراهُ كلّ عين، لكنّه في كلّ أحواله لا ينقطع!. ذلك أنّ الفلسفة في جانبٍ منها، تأمّل في الكون والإنسان، ونظر في المبدأ والمآل، وتساؤلٌ عن الخير والشرّ، ووقوف عند الزوال وعوامله، ومعاناة الحريّة والقيد، ورغبة في استبطان نوازع الإنسان، من خوف وأمن، وحبٍّ وبغض، وسكينة وقلق، وأمل ويأس، وهي في جانب آخر، ضرب من التطلّع نحو الغيب!. أمّا الأدب، فإنّه تلك المعاني نفسها مجتمعة، ومتفرّقة، وكلّ ما بينهما من فرق، أنّ الفلسفة تسلك سبيل التجريد، والأدب سبيله التصوير والتجسيد.
إن وعي الإنسان أوّل ما بدأ، بالأسطورة، المهد الذي نشأت فيه الفلسفة والأدب معاً، على نحوٍ من التشابك والامتزاج، ثمّ فارقت الفلسفةُ الأسطورةَ عند اليونان، إذ اتّخذت التجريد سبيلاً لها في معالجة قضاياها، وبقي الأدب يستمدّ من الأسطورة نسغاً لا يجفّ، ومضى كلٌّ في مساره، فصارت الفلسفة تدل على البحث الحرّ المجرد، والأدب على خوض تجربة الوجود معبّراً عنها بالصورة المجسّدة، وعندما تمرّست الفلسفة بقضاياها، واستقرّ بناؤها، واتّضح نهجها، وغزرت أفكارها، صارت مدداً للأدب يأخذ منها العمق والسعة واتّساق الموقف.
لكنّ، أيّاً منهما لم يستغن عن صاحبه، فإذا أرادت الفلسفة حسن البيان عن مراميها، وجلاء مقاصدها، استعانت بالأدب وأفادت منه، ولقد أقام “أفلاطون” فلسفته على قالب المحاورة، وهو صيغة أدبيّة قريبة ممّا يدورعلى المسرح، وجعل لغته مشرقة البيان حتّى عدّ بها من كبار الكتّاب عند اليونان، واصطنع غيره من الفلاسفة لغة الأدب في الإبانة عن مقاصده، كصنيع “باسكال” في خواطره، و”نيتشه” في “هكذا تكلّم زرادشت”، و”سارتر” في “الغثيان” و”الذباب”، إذ جعل قالب الرواية والمسرحيّة عنوان فلسفته، ومثله “كامو” و”برجسون”، ولا يخفى أنّ اللغة الثريّة الساطعة البيان، والقالب الأدبي يحمل كلٌّ منهما وجوهاً من المعنى، تجعل فلسفة الفيلسوف غزيرة المقاصد، واسعة المرامي، متاحة لمزيد من التأويل.
وإذا أراد الأدب سعة في الرؤية، واتّساقاً في الموقف، كان بأفق الفلسفة، يستوحي قضاياها ويسبغ عليها ألواناً من العاطفة والخيال، وقد شهد تاريخ الأدب من استطاع بموهبته أن يُلين الحقائق، وأن يجعل لها أجنحة، ويجري في مفاصلها الدم، وهو ما فعله الشاعر الإغريقي “هزيود” في “الأعمال والأيام”، والشاعر الروماني “لوكريتس” في “طبائع الأشياء”، غير أنّ ضعيف الموهبة إذا سلك هذا الدرب كبا، واستحال كلامه نظماً بارداً.
وكلّ أديب كبير فإنّما وراءه رؤية فلسفيّة تسدد أدبه وترسم مساره، وربّما أتيح للأدب أن يعبّر عن قضايا فلسفيّة، لا تستطيع الفلسفة الصرف التعبير عنها لصرامة منهجها، فلقد شغلت قضيّة الجبر والاختيار أذهان طلائع الفكر عند العرب في القرنين الأوّل والثاني من الهجرة، فخاض فيها المتكلّمون بمختلف فرقهم على نحو من التجريد، لكنّ “بشّار بن برد” يصغي إلى وقع قضيّة الجبر والاختيار وهي تجري في دمه، فيقول :
“خُلقتُ على ما فيَّ غير مخيَّر/ هواي، ولو خُيّرتُ كنتُ المهذَّبا/ أريد فلا أُعطى، وأُعطى ولم أرد/ وقصر علمي أن أنال المغيّبا/ وأُصرفُ عن قصدي وحلمي مبلغي/ وأُضحي وما أعقبتُ إلّا التعجّبا”.
أبياتٌ، فيها من التصوير وتوقّد العاطفة والإيجاز، ما يمدّ من آفاق القضية، ويُلهم مزيداً من التفكير فيها، ويقول في مقام من الأسى والحيرة:
“وكأنّ قلبي عند كلّ مصيبةٍ/ عظمٌ تكـرّر صدعُه فتهيّضا/ فاشربْ على تلفِ الأحبّة إنّنا/ جَزَرُ المنيّة ظاعنين وخفّضا”.
لقد شُغل “أبو نواس” بالأمر نفسه، حريّة الإنسان وما ينتابه في مجرى الزمن، فجعل من شعره صورة تلك الرؤية، يجسّدها مرّة بالخمر وأخرى بالطلل المتآكل، حتّى مضى أبعد ممّا مضى ذوو الفكر الفلسفيّ، ذلك أنّ شعره لا يقوم على العاطفة وحدها، وإنّما وراء العاطفة ذهن متسائل، متأمّل في الحياة ومجراها وتقلّباتها، وفي الزمان وما يصنع بالإنسان والأشياء، ولعلّ الذي أبقى شعره حيّاً مقروءاً، تلك الأسئلة المضمرة فيه، والتي تدور متوهجة بعاطفة لا تنطفئ:
“يـا دارُ ما فعلتْ بكِ الأيّـامُ/ ضامتكِ والأيّامُ ليسَ تُضامُ/ عرم الزمانُ على الذين عهدتُهم/ بك قاطنين وللزمانِ عرامُ”.
لاشكَّ أن لكلّ عصر أسئلة تدور في فضائه، يتناولها أهل الفلسفة بالفكر المجرد، وأهل الأدب بالتصوير والتجسيد، وبين المنحيين مياه تغدو وتروج!.
كان “أبو تمّام” قد أدرك، بنحوٍ ما، حركة الأشياء وتبدّلها، وأنّ السكون عارض، والأصل حركة لا انقطاع لها، فأخذ يدور بشعره حول هذا الفكر، ويعبّر عنه بما يتجلّى به، يقول بشأن الطبيعة :
“نزلتْ مقدّمةُ المصيف حميدةً/ ويـدُ الشـتاء جـديدة لا تُكـفرُ/ لولا الذي غرس الشتاءُ بنفسه/ لاقى المصيفُ هشائماً لا تثمرُ”.
ويقول بشأن الإنسان:
“ولكنّني لم أحوِ وفراً مجمّعاً/ ففزتُ به إلّا بشمل مبدّدِ/ ولم تعطني الأيّامُ نوماً مسكّناً/ ألذّ به إلّا بنومٍ مشرّد”.
كِلا الأمرين منسوج من أضدادٍ، بعضها يقوم على بعض، وليس بخافٍ أنّ ذلك من مدار الفكر الفلسفيّ، فحين ينظر في الحياة ومجراها، يكون أفق الشّعر:
“هبيني من الدنيا ظفرتُ بكلّ ما/ تمنيتُ أو أعطيتُ فوق الأمانيا/ أليس الليالي غاصباتي بمهجتي/ كما غصبتْ قبلي القرونَ الخواليا/ فيا ليتني من بعد موتي ومبعثي/ أكـون رُفاتاً لا عــليّ ولا ليـا”.
أيضاً، وراء المتنبي والمعرّي، فكرٌ فلسفي متّسع عميق، يفيد من كلّ ما كان متاحاً لهما من فكر وفلسفة، ويزيد فوقها تأمّلاً ومساءلة، ويسبغ عليها وهج العاطفة.
يقول أبو الطيّب في مقام تهوين نازلة الموت:
“إلفُ هذا الهواءِ أوقع في الأنـ / … ـفسِ أنّ الحمامَ مرُّ المذاقِ/ والأسى قبلَ فرقة الروح عجزٌ/ والأسى لا يكون بعد الفراقِ”.
إنها الفكرة نفسها، التي أدارها من قبل “أبو بكر الرازي” ليدفع بها عن الإنسان الخوفَ من الموت، لكنّها عند “أبي الطيّب” مصوغة بإيجاز وإحكام، ويتخلّلها شعاعٌ من عاطفة هادئة.
هذا عن “المتنبي” أما عن قول: “أبو العلاء المعري”:
“غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي/ نوحُ باكٍ ولا ترنـّمُ شادِ/ وشبيهٌ صوتُ النـعيّ إذا قيـ / س بصوت البشير في كلّ نادِ/ أبَكـتْ تلـكـم الحمامةُ أم غنّتْ/ على فرعِ غصنـها الميّـادِ”؟.
“المعري” هنا، يُذيب في أبياته فكراً، يرمي إلى استواء الأشياء وهي تمضي إلى الفناء.
يخلد الأدب بما وراءه من فكر ينفذ إلى خفايا النفس، وينزل إلى أعماق المجتمع، ثمّ يصوّر ذلك كلّه بقوّة واستيعاب وسلاسة، وكلّما ابتعد عن أفق الفكر والفلسفة، تضاءلت قيمته وقصُر عمره، وكلّما اقترب من ذلك الأفق، علا شأنه وبقي خالداً مدى الزمن، على أنّ الفكر الفلسفي لا يصحّ أن يجيء في الأدب، إلّا ذائباً في الكلمات والصور والأحداث والشخصيّات…!.
كاتب وباحث عراقي
التاريخ: الثلاثاء19-1-2021
رقم العدد :1029