الملحق الثقافي:رشا سلوم :
حين سئل “أبو تمام” منذ قرون: “لماذا لا تقول ما يفهم”؟. ردَّ: “ولماذا لا تفهمون ما يقال”، وكان “أبو تمام” قد اتُّهم أنه يجنح نحو الغموض، ويخرج عن مذهب القدماء، ودبجت عشرات الكتب قديماً وحديثاً، تبحث في أدوات تجديده ومذهبه الشعري الذي يمكن القول، أنه الرمزية اليوم ..
بعد “أبي تمام” بقرون، ظهر مذهب الرمزية والغموض في الأدب، وقد شهد الأدب العالمي فورة ذلك عند “مالارميه” وآخرين، وحتى “بودلير” ووصلت النزعة إلى الشعر العربي وأخذت مداها ..
اليوم، يعود النقاد إلى المقارنة بين جذورها ونضجها، وخروج الأدب إلى التلاشي والعبث، باسم التجديد والرمزية والغموض، وقد أدت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً تخريبياً في ذلك ..
الناقد العراقي “جودت هوشيار” يبحث في أسرار هذه النزعة العالمية ويؤصل لقدرتها على تقديم الجديد في اللغة والمعنى، ويرى:
“أن تأريخ الثقافة العالمية، حافل بأمثلة توضح بجلاءٍ، كيف أن الأدب الجديد حقاً في مضمونه وشكله، والمعبر أصدق تعبيرٍ عن هموم زمانه، قد عانى هو الآخر من هذه المشكلة المحورية، ومن مشاكل الأدب، مشكلة العلاقة بين المبدع والمتلقي، وسنكتفي هنا بمثال واحد فقط:
كان الشاعر الروسي “فلاديمير مايكوفسكي” في العشرين من عمره، عندما ألقى قصيدته الطويلة الشهيرة “غيمة في بنطلون” لأول مرة في خريف عام 1913 في مقهى “الكلب الضّال” في بتروغراد. أثارت القصيدة هيجاناً لم يسبق له مثيل، وكانت أصوات الشجب والاستنكار تتعالى في أرجاء المقهى، فطلب الكاتب الروائي “ميخائيل فولكوفسكي” – وكان شيخاً مهيباً بلحيته البيضاء الكثة – الكلام للتعقيب، وقال: “أنا عندكم هنا لأول مرة، ولم ألتق بكم سابقاً. لقد ألقى الشاعر الشاب قصيدة غير تقليدية، ولولا بعض الكلمات الخادشة في نهايتها، لكانت قصيدة رائعة. هذا شعر جديد وأصيل، وغير مألوف، لذا أثار غضبكم. لكن مهلاً، إنه شاعر موهوب وستتعودون على مثل هذا الشعر، وكلّ جديد يثير لغطاً في البداية، لينتهي إلى الاعتراف بموهبة شعرية أصيلة.”
حقاً، الغموض لم يكن كامناً في قصيدة “مايكوفسكي”، بل في أذهان فئة من المثقفين، والمتمسكين بالقيم البالية، ممن أفسدت الثقافة الرجعية أذواقهم الجمالية، ولم يكن الأدب والفن لدى هؤلاء السادة ضرورة عميقة وملحة، بل وسيلة لهو وتسلية، ومصدراً للكسب المادي والشهرة.
نجد اليوم، أن قصائد “مايكوفسكي” مفهومة لدى عشرات الملايين من القراء في جميع أنحاء العالم.
يخلط كثير من الباحثين ونقاد الأدب في بلادنا، بين الغموض المتعمد أو التعمية والابهام من جهة، وبين الإيحاء والتلميح من جهة ثانية.
ثمة أعمال إبداعية تتَّسم بقدرٍ من التعقيد، مثل بعض أعمال “جيمس جويس”، وشعر “بوريس باسترناك”، وهي ليست مثيرة لاهتمام القارئ الباحث عن القراءة المسلية، بل تجذب اهتمام القارئ المثقف، الذي يمتلك ذائقة جمالية رفيعة، ويقرأ ما بين السطور.
نظرية الجبل الجليدي العائم
احتل “ارنست همنغواي” مكانته الرفيعة في الأدب الحديث بفضل أسلوبه الواضح والبسيط ظاهرياً، والذي سمّاه بالجبل الجليدي، فهو يقول الكثير باستعمال القليل الموجز من الكلمات، ويكتفي بالتلميحات والتفاصيل الدّالة. نصوص تتألق معانيها العميقة ضمنياً، ويلعب القارئ هنا الدور الأساسي في فهم النص وتفسيره، ويفهمه كل مثقف حسب وعيه وثقافته وإدراكه لمضامينه وإحساسه بجمالياته. أي أن ثمة مستويات عديدة للفهم والاستيعاب.
وقد كان “همنغواي” يقول: “القصة الجيدة، هي تلك التي يحذف منها أقصى ما يمكن حذفه، وإذا كان الكاتب يكتب بنصاعة، فإن بوسع القارئ فهم ما هو مخفي بسهولة”.
قال ذلك، وجسّد نظرية “الجبل الجليدي” على نحو رائع في قصته القصيرة “تلال كالفيلة البيضاء”. القصة على شكل حوار بين رجل أميركي وفتاة تُدعى جيغ، يحاول الرجل إقناع الفتاة بإجراء عملية ما، دون أن يفصح عن نوع العملية، ربما كانت إجهاضاً.
لا توجد في القصة أي إشارة إلى أن الفتاة حامل، ولكن القارئ يفهم أن الأميركي لا يريد أن تنجب الفتاة طفلاً، ويؤدي ذلك إلى تهاوي علاقتهما، ويشعران أن افتراقهما أصبح أمراً حتمياً.
لقد استطاع “همنغواي” في بضع صفحات، وباستخدام الحوار فقط، أن يصف التأريخ الكامل للعلاقة بين الرجل الأميركي والفتاة. ولكن القارئ يقرأ ما هو مضمر في هذه القصة الرائعة بكل سهولة.
صفوة القول: إن الغموض من ملامح القصور الفني أو العجز الإبداعي، إذا لم يؤدِّ غرضاً فنيًّا صرفاً، في حين أن الغموض الذي يستدعيه الفن، هو ميزة إيجابية.
التاريخ: الثلاثاء19-1-2021
رقم العدد :1029