الثورة – وعد ديب:
قدّر البنك الدولي في تقريره الأخير، بعنوان “تقييم الأضرار المادية وإعادة الإعمار في سوريا 2011-2024″، تكلفة إعادة إعمار البلاد بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً من الحرب بنحو 216 مليار دولار أميركي.
واستند التقرير الصادر إلى تقديرات تتراوح بين 140 و345 مليار دولار، إذ أشار إلى أن الأضرار المادية المباشرة فقط بلغت نحو 108 مليارات دولار، وقد تكبدت البنية التحتية النصيب الأكبر من هذه الخسائر، تلتها المنشآت السكنية وغير السكنية.
بين الواقع والمعقول
في حديثه لصحيفة الثورة، قدم الخبير الاقتصادي الدكتور سميح القباني قراءة نقدية لهذه التقديرات. موضحاً أن الأرقام التي قدمها البنك الدولي يمكن اعتبارها معقولة من الناحية الفنية، لكنها لا تعكس الواقع من حيث التنفيذ الفعلي في الوقت الراهن، بالنظر إلى الظروف الاقتصادية والسياسية الراهنة.
مضيفاً أن هذه الأرقام تُحسب على أساس تقديرات لما فقدته سوريا من “رأس المال الثابت” والخدمات الأساسية، استناداً إلى بيانات جمعت خلال الفترة من 2011 إلى 2021. لكنه أشار في الوقت نفسه، إلى أن هذه الأرقام تمثل القيمة الاقتصادية للأصول التي تم تدميرها، وليست بالضرورة تعبيراً عن المبالغ التي يمكن تمويلها أو استخدامها لإعادة البناء في الوقت الحالي.
من الناحية الاقتصادية، أكد أن التقديرات التي تتراوح بين 140 و345 مليار دولار تبدو منطقية كنطاق، لكن من الناحية المالية والسياسية، فهي بعيدة عن الواقع. إذ أن الناتج المحلي الإجمالي السوري لا يتجاوز 20 مليار دولار سنوياً، ما يخلق فجوة تمويلية هائلة يصعب تغطيتها عبر الجهود المحلية فقط.
ونصح الدكتور القباني بأن الحل الأكثر واقعية لتنفيذ هذه التقديرات هو تقسيم مشروع إعادة الإعمار إلى مراحل متعددة، ومن المتوقع أن تتراوح تكلفة كل مرحلة بين 15 إلى 20 مليار دولار، على أن تمتد على مدى 15 إلى 20 عاماً، كما أن هذه الطريقة تمنح سوريا فرصة للانتعاش الاقتصادي التدريجي، وتسمح بتوزيع التكلفة على مدى زمني طويل، ما يساعد على تجنب الضغط الكبير على الموازنة الوطنية.
وأشار إلى أن هناك عدة عوامل قد تؤدي إلى زيادة التكلفة الفعلية لإعادة الإعمار مقارنة بتقديرات البنك الدولي منها تدهور البنية التحتية الحالية فالكثير من المرافق العامة والخدمات الأساسية تعمل حالياً بطرق مؤقتة أو جزئية. التأخير في إعادة الإعمار سيزيد من تعقيد عملية ترميمها، وبالتالي سيضاعف التكلفة.
كذلك الارتفاع الكبير في أسعار مواد البناء والطاقة: منذ عام 2020، ارتفعت أسعار الإسمنت والحديد والنقل بنسبة تراوحت بين 30 بالمئة و50 بالمئة، وهذا الارتفاع سيزيد العبء المالي، خصوصاً إذا تم الاعتماد على الواردات بالدولار مقابل تراجع قيمة الليرة السورية.
ومن العوامل أيضاً التجزئة الجغرافية والسياسية، أي وجود سلطات متعددة في مناطق مختلفة من سوريا قد يؤدي إلى صعوبة تنسيق المشاريع وازدواجية الإنفاق، ما يزيد التكاليف.
ويتطرق إلى الفساد وضعف الحوكمة، فهناك تجارب سابقة في العراق ولبنان تُظهر أن سوء إدارة العقود وعدم وجود رقابة فعالة يمكن أن يزيد التكلفة الفعلية بنسبة 20 بالمئة إلى 40 بالمئة فوق التقديرات الرسمية.
أما فيما يتعلق بعودة اللاجئين فمن المتوقع أن يزيد عودة اللاجئين السوريين الضغط على قطاع الإسكان والخدمات الأساسية. كل مليون لاجئ عائد سيحتاج إلى مساكن وبنية تحتية أساسية، ما سيرفع التكاليف، وفقاً للخبير القباني.
كذلك يشير إلى الدمار العميق في المدن الكبرى، مثل حلب وحمص ودير الزور، حيث سيشكل ترميم هذه المدن عبئاً مالياً إضافياً نظراً للتكاليف المرتبطة بالحفاظ على الطابع العمراني والتاريخي لهذه المدن.
ورغم التحديات الكبيرة، فإن الخبير في الشؤون الاقتصادية، أشار إلى بعض العوامل التي يمكن أن تساعد في تقليص التكلفة الإجمالية لإعادة الإعمار، منها إعادة الإعمار الانتقائية يتم التركيز في المراحل الأولى على تأهيل البنية التحتية الأساسية فقط، مثل الكهرباء والماء والطرق والخدمات الصحية، وتأجيل المشاريع الكبرى مثل الإسكان، ما يقلل الفاتورة في البداية.
الاستفادة من العمالة المحلية ومواد البناء المحلية بحيث يمكن أن يسهم استخدام العمالة المحلية والمواد المتوفرة في السوق السورية في تقليص التكلفة بنحو 25% مقارنة بالمشاريع المنفذة بالكامل بواسطة الشركات الأجنبية.
وكذلك تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص عبر نموذج “التشغيل مقابل العائد”، بحيث تقوم الشركات الخاصة بتشغيل المشاريع مقابل الحصول على عائدات تشغيلية لفترة زمنية محددة. هذا يخفف الضغط على الموازنة العامة.
والتوزيع الزمني لإعادة الإعمار، بحيث إذا تمت إعادة الإعمار على مدى 15 إلى 20 عاماً، فإن هذا سيسمح بتوزيع الكلفة على مدار فترة زمنية طويلة، ويساعد في الاستفادة من الإيرادات المحلية المستقبلية.
إضافةً إلى الاستفادة من تحويلات المغتربين السوريين، فبحسب الخبير الاقتصادي، فإن التحويلات السنوية للمغتربين السوريين تتجاوز 1.5 إلى 2 مليار دولار.
ويمكن توجيه جزء من هذه التحويلات نحو مشاريع استثمارية بدلاً من أن تذهب كلها إلى الإنفاق الاستهلاكي المباشر.
وفي ختام تحليله، شدد الدكتور القباني على أن عملية إعادة الإعمار في سوريا تتطلب استثمارات ضخمة بجانب إصلاحات هيكلية جذرية.
وأوضح أن الاقتصاد السوري فقد نحو 53 بالمئة من قدرته على توليد الدخل منذ عام 2010 حتى 2022، مما يبرز ضرورة الاعتماد على دعم دولي واسع النطاق.
واعتبر أن هذا الدعم يجب أن يكون مشروطاً بتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة، تشمل الحوكمة الشفافة والرقابة الصارمة.
وفي إطار تقييمه للتجارب الدولية التي يمكن الاستفادة منها، أشار الدكتور سميح القباني إلى تجارب بعض الدول التي مرّت بمراحل صراع وإعادة إعمار مماثلة، منها تجربة العراق (2003)، وتجربة البلقان وكوسوفو وبوسنيا، وخطة مارشال (1948).