من الغياب الى الاستعادة.. إدلب تسترجع أراضيها لتبني مستقبلاً من النماء 

الثورة – لينا شلهوب:

على امتداد الطريق الترابي بين معرة النعسان وآفس وريف سراقب، ترتفع غمامة غبار ثقيلة، تثيرها جرافة تابعة لوزارة الزراعة وهي تزيل سواتر تراكمت لسنوات، كانت تفصل الأرض عن أصحابها، والحياة عن جذورها، هناك، عندما بدأ العمل، تحت أشعة حزيران الحارقة، ووسط أصوات المحركات، كتب حكاية جديدة للأرض السورية في الشمال عنوانها “من تحت سواتر الحصار، انبثق الأمل”.

لم تكن المهمة سهلة، لكنها كانت حتمية، فبعد أعوام من إغلاق الطرق الزراعية، وتكدس التراب في الحقول، بدأت وزارة الزراعة تنفيذ خطة واسعة لإزالة السواتر الترابية العسكرية، التي كانت تفصل آلاف الدونمات عن أصحابها، من معرة النعسان كانت البداية، لتتحول الحملة خلال الأشهر الأخيرة إلى مشروع وطني لاستعادة الأرض، وفتح دروب جديدة أمام الحياة والإنتاج.

35 بالمئة من الخطة أنجزت

يبين مدير الزراعة في إدلب مصطفى موحد لصحيفة الثورة، أنه في منتصف حزيران الماضي تحركت أولى آليات وزارة الزراعة في ريف إدلب، لتبدأ عملية وصفت بأنها أكبر مشروع لإعادة تأهيل الأراضي الزراعية شمال البلاد منذ سنوات.

المشهد الميداني بسيط في ظاهره، جرافات تزيل سواتر ترابية أغلقت الحقول، وأعاقت الوصول إليها، لكن خلف هذا المشهد، تتشكل معادلة اقتصادية وزراعية جديدة قد تترك أثراً طويل الأمد على الأمن الغذائي في سورية، وحتى منتصف تشرين الأول، تمكنت آليات وزارة الزراعة من إزالة أكثر من 80 كيلو متراً من السواتر الترابية، وردم ما يزيد على 85 ألف متر مكعب من التراب، في عملية مكثفة شملت عدداً من الأراضي.

وأشار إلى أن ما تحقق حتى الآن يشكل نحو 35 بالمئة من الخطة الكلية، مع توسع العمل في مناطق آفس وريف سراقب، على أن يشمل المشروع لاحقاً مناطق إضافية متضررة من خطوط التماس السابقة، فيما تقدر المساحات التي استعادت صلاحيتها الزراعية حتى الآن بـأكثر من 3,200 دونم، فيما عاد أكثر من 350 مزارعاً إلى أراضيهم التي حُرموا منها لسنوات، لافتاً إلى أن السواتر لم تكن مجرد تلال ترابية، بل شكلت جداراً من الخوف والخسارة، تحجب الأرض، وتزرع الألغام في طريق المزارعين.

كما تطرق إلى أن وزارة الزراعة تعتبر أن المشروع جزء من سياسة أوسع لتعزيز الأمن الغذائي، عبر رفع نسبة الأراضي المزروعة القريبة من مراكز الاستهلاك المحلية، وتقليل الاعتماد على النقل البعيد أو على المساعدات الإنسانية، فالمنطقة وفق بيانات رسمية، كانت تعاني من: نقص في الإمدادات الزراعية المحلية، وتلف محاصيل موسمية نتيجة صعوبة الوصول، فضلاً عن ارتفاع تكاليف النقل بنسبة تجاوزت 30 بالمئة بسبب الطرق المغلقة، منوهاً بأن فتح الطرق الزراعية بعد إزالة السواتر لا يقل أهمية عن الزراعة نفسها، إذ يسمح بعودة حركة التجارة المحلية، ونقل المحاصيل مباشرة من الحقول إلى الأسواق دون المرور بمسارات التفافية طويلة.

فيما يشير أحد المهندسين المشرفين إلى أن إزالة كل كيلومتر من السواتر تختصر معه عشرات الكيلومترات من المسافات البديلة، ما ينعكس مباشرة على كلفة النقل النهائية للمستهلك.

الأرض تستعيد نبضها

أكد مدير زراعة إدلب، أن أهمية المشروع تأتي من كونه لا يقتصر على الجانب الهندسي أو البيئي، بل يمتد إلى تحريك ميزان العرض والطلب الزراعي في الشمال السوري، فإعادة هذه المساحات إلى الخدمة تمثل زيادة فعلية في المعروض المحلي من المحاصيل الأساسية، لاسيما القمح والخضار الموسمية، في منطقة تواجه منذ سنوات تراجعاً في الإنتاج الزراعي المحلي بسبب القيود الأمنية وتلف البنية التحتية، وبحسب تقديرات أولية، فإن استصلاح 3200 دونم قد يضيف نحو 1200 طن من القمح سنوياً (بمتوسط 0.35 طن/دونم)، وقرابة 900 طن من الخضار المتنوعة (بمتوسط 0.27 طن/دونم)، إلى جانب إعادة زراعة مئات الدونمات بالزيتون والمحاصيل البعلية.

كذلك بيّن أن هذه الزيادة في الإنتاج يمكن أن تترجم خلال موسم واحد إلى انخفاض نسبي يتراوح بين 7 و12 بالمئة في أسعار بعض السلع الطازجة في الأسواق المحلية، خصوصاً في المناطق التي تعتمد على الإمدادات الداخلية.

بدوره الخبير الزراعي المهندس أحمد عبد الرحيم، يقول: إزالة السواتر لم تكن مجرد عمل هندسي، بل عمل إنساني وتنموي، نحن نردم التراب، لكننا في الحقيقة نفتح طريقاً للمستقبل، ومع كل ساتر يزال تعود دورة الحياة الزراعية إلى مكانها الطبيعي، فالحقول التي كانت محاطة بالتراب والخطر بدأت تحرث من جديد، وشبكات الري سيعاد تأهيلها تدريجياً، أما في بعض المناطق فقد أعيدت زراعة محاصيل القمح والخضار الموسمية، فيما بدأت أعمال تحضير الأراضي لغرس الزيتون والمحاصيل البعلية.

إحدى المزارعات العائدات إلى أرضها قالت: خمس سنوات لم ندخل أرضنا، واليوم عدنا إليها وكأننا نعود إلى بيتنا الأول.

استقرار محلي وفرص جديدة

تكتسب هذه الخطوة بعداً اقتصادياً عميقاً يتجاوز الحدود المحلية، فإعادة الأراضي الزراعية إلى الاستثمار تعني زيادة العرض المحلي من المحاصيل الأساسية، وبالتالي خفض الأسعار وتحسين الأمن الغذائي في وقت تواجه فيه البلاد ضغوطاً تضخمية وتراجعاً في الإنتاج المحلي.

إذ يرى خبراء الاقتصاد الزراعي أن استصلاح 3,200 دونم يمكن أن يضيف آلاف الأطنان من القمح والخضار إلى الأسواق المحلية خلال الموسم المقبل، ما سيؤدي إلى تراجع أسعار الخضار والحبوب في أسواق الشمال السوري، ويقلل اعتماد المحافظات على الواردات الداخلية المكلفة، كما أن فتح الطرق الزراعية الموازية لطريق M4 الرئيسي يسهم في تقليص زمن نقل المنتجات إلى الأسواق، ويخفض تكاليف النقل التي كانت سبباً رئيسياً في ارتفاع أسعار السلع الطازجة.

ولم تقتصر آثار المشروع على الأرض فقط، بل شملت المجتمعات التي حولها، فعودة المزارعين إلى أراضيهم تعني استقراراً اجتماعياً وتراجعاً في معدلات النزوح، إضافة إلى خلق فرص عمل جديدة في مجالات النقل، والحراثة، وتوريد المستلزمات الزراعية.

ويشير تقرير وزارة الزراعة إلى أن الحملة وفرت فرص تشغيل لعدد من العمال والسائقين، وأسهمت في تحريك الأسواق المحلية للخدمات والوقود والمعدات، ما سيعيد النشاط الاقتصادي إلى القرى المحيطة، كما تعمل مديرية الزراعة في إدلب بالتنسيق مع منظمات نزع الألغام لتأمين الأراضي بعد إزالة السواتر، وضمان سلامة المزارعين والعاملين في الحقول.

 تحديات ما بعد الإزالة

وعلى الرغم من هذه الخطوات المتقدمة، لا تزال هناك ثغرات تحتاج إلى معالجة لضمان استدامة النتائج، أبرزها بحسب خبراء محليين، ضعف قدرات التخزين في المنطقة، ما يجعل جزءاً من المحاصيل عرضة للتلف أو البيع السريع بأسعار منخفضة، غياب منشآت التصنيع الغذائي الصغيرة (كالطحن والتعليب واستخلاص الزيوت)، بالإضافة إلى الحاجة لصيانة الطرق الزراعية الفرعية التي تربط القرى بالأسواق الرئيسية، كما أن نقل المحاصيل بين المحافظات ما يزال مقيداً أحياناً بعوامل لوجستية أو مالية، ما يحدّ من تكامل الأسواق المحلية داخل سورية.

من مبادرة ميدانية إلى نهضة زراعية

يشير المتخصصون إلى أن نجاح هذه الحملة قد يشكل نقطة تحول في إعادة هيكلة القطاع الزراعي في الشمال السوري، خصوصاً إذا ترافقت مع خطط دعم للمزارعين وتأمين مستلزمات الإنتاج من بذار وأسمدة ووقود، فكل دونم يُستعاد، يعني زيادة في الإنتاج المحلي، وخطوة نحو خفض مستدام في أسعار المواد الأساسية، وتراجعاً تدريجياً في الاعتماد على المساعدات الغذائية، كذلك فإن توسيع المساحات الصالحة للزراعة بانتظام سيعيد إنتاجية المناطق الشمالية إلى ما كانت عليه قبل الحرب، ويفتح الباب أمام استثمارات زراعية صغيرة ومتوسطة قادرة على دعم الاقتصاد المحلي.

يبدو المشهد في إدلب مختلفاً اليوم، كما يقول مدير الزراعة، إذ لم تعد السواتر شاهدة على الحصار، بل على بداية مرحلة جديدة من الحياة، فما يجري هناك ليس مجرد إزالة أكوام من التراب، بل ردم للخوف، وبعث للأمل في أرض أنهكتها الحرب، لكنها ما زالت قادرة على العطاء، إنها قصة أرض تنفض عنها غبار السنوات لتعود وتزرع الغد من جديد.

آخر الأخبار
افتتاح مكتبي بريد "اعزاز ومارع"  لتوسيع الخدمات للمواطنين  " الاتصالات" لا تزال بطور البحث عن سبل تطوير الأداء    إدارة منطقة "الباب" تواصل لقاءاتها .. وتؤكد حرصها على تحسين الخدمات  عودة الحياة إلى مدرسة الطيبة الرابعة في درعا  نقيب معلمي سوريا يزور ثانوية مزيريب بعد حادثة الاعتداء   القبض على خلية إرهابية بعملية محكمة في اللاذقية  الشرع يبحث مع وزير الدفاع وقادة الفرق المستجدات على الساحة الوطنية  تحذيرات من "خطر "تناقص المياه  "نبض سامز": تدريب مكثف لرفع كفاءة الأطباء في إنقاذ الأرواح  النيرب معقل الوردة الشامية في حلب.. تعاون زراعي لتطوير الإنتاج  محافظة حلب تخصص رقماً هاتفياً لتلقّي الشكاوى على المتسوّلين   الاستجابة الطارئة لمهجري السويداء تصل إلى 84 ألف مهجر في مراكز إيواء درعا   صدور النتائج الأولية لانتخابات مجلس الشعب عن دائرتي رأس العين وتل أبيض  عودة 400 لاجئ من لبنان ضمن العودة الطوعية من الغياب الى الاستعادة.. إدلب تسترجع أراضيها لتبني مستقبلاً من النماء  "التربية": كرامة المعلم خط أحمر والحادثة في درعا لن تمر دون عقاب البيانات الدقيقة.. مسارات جديدة في سوق العمل خطّة التربية والتعليم".. نحو تعليم نوعي ومستدام يواكب التطلعات سرقات السيارات في دمشق... بين تهاون الحماية وانتعاش السوق السوداء فرنسا تصدر مذكرة توقيف ثالثة بحق المخلوع "بشار الأسد"